أثناء دراستي الجامعية في المنصورة .. شاهدت أشياءً كثيرة لم أتعود مشاهدتها عندنا في غزة , وأذكر منها مثلا وهو أن أهل الميت في المنصورة يستأجرون عربة حنتور ويثبتون عليها ميكروفونا ويدور الحنتور في المدينة وبه رجل من أهل المرحوم يقول ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ , ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً , فَادْخُلِي فِي عِبَادِي , وَادْخُلِي جَنَّتِي ) بكل حزن وأسى تنعى عائلة الدمياطي في المنصورة والسنبلاوين وميت غمر وديارب نجم في الشرقية المغفور له ( الحاج عبد المعز ابراهيم الدمياطي) عن عمر يناهز السابعة والتسعين عاما قضاها في البرِّ والتقوى .. والفقيد هو صهر عائلة السنبلاوي في السكة الجديدة ووالد الباشمهندس محمود عبد المعز الدمياطي مدير مضارب القطن في المحلة ووالد الدكتور عبد الوهاب الدمياطي اخصائي النسا والولادة في المستفى الجامعي ووالد رجل الاعمال منصور الدمياطي صهر السيد محافظ المنصورة ووالد الآنسة ميرفت الدمياطي المسؤولة على قلم الأرشيف في قسم أول شرطة المنصورة وزوج المرحومة الحاجة الفاضلة أم الباشمهندس محمود وصهر كلا من خميس البهنساوي صاحب محلات ألف صنف وصنف وعائلة الحويطي أصحاب محلات نجمة المنشية للكريستال و و و ..
وطبعا كل من يسمع هذا الخبر يرفع أكف الضراعة لله داعيا أن يسكن فقيد عائلة الدمياطي فسيح جناته لأنه سمع للتو بأن الرجل قد أفنى الـ 97 عاما في أعمال البرِّ والتقوى ...
مرت علي أربع سنوات ولا أذكر أن أسبوعا واحدا قد مر بدون نعي أحدٍ الدؤوبين على عمل البرِّ والتقوى .. هذا بالإضافة للنعي في الجرائد من العائلة والنسايب وجميع موظفي الدوائر الحكومية والمحلات التجارية ذات الصلة بورثة الفقيد ..
ومما لفت نظري هو غياب رجل غلبان طاعن في السن كان يبيع الفول المدمس صباح كل يوم , ولما سألتُ عن سبب غيابه قال لي جاري ( تعيش إنت ) فقلت على الفور إنا لله وإنا إليه راجعون وجلستُ على البلكونة .. أنتظرالحنتور والميكروفون فلم يأتِ .. فعرفتُ حينها أن ذلكَ الرجل الفقير المعدم قد أفنى عمره في أشياء أخرى غير البرِّ والتقوى . ولكني ترَّحمتُ عليه عندما لم أجد في الجريدة أحدا ينعيه ,ولا زلتُ أترحَّم عليه .
تخرَّجت من الجامعة ورجعتُ لغزة وتعينتُ في وظيفة مرموقة .. ثم فكَّرتُ أن اشتري قطعة ارض لابني عليها " عش الزوجية " – على بالي إن الزواج قن به ديك ودجاجة - .. فدلوني على رجل اقطاعي صاحب أراضي كثيرة إسمه " فلان المقوسي " .. ذهبت له واتفقنا على شراء 700 متر مربع بسعر كذا ومواصفات كذا .. فإذا بالرجل يقول لي بأنه سيكتب في عقد البيع نصف المبلغ المتفق عليه والنصف الآخر ( دكاكيني ) .. يعني بيني وبينه .. ولمَّا سألته عن السبب قال لي لكي لا يدفع ضريبة للدولة عن المبلغ الإجمالي لثمن الأرض . فرفضتُ لأني لم أشأ ان يبدأ القن بالغش خوفا على الصيصان القادمة - وذهبت لرجل آخر فقال لي نفس القصة ونفس الشروط .. وهكذا إلى أن عثرت على رجل وافق بأن يكون البيع والشراء بحسب ديننا وعاداتنا وتقاليدنا , وعلمتُ – للأسف بعد فوات الأوان – أنه كان للرجل " دجاجة جامعية وجميلة " على وش زواج وكان الرجل يودُّ لو كنت حفيد الصيصان القادمة .. ولكن قدَّر الله وما شاءَ فعل لأن الدَّجاج قســمة ونصيب .!:
تمت الصفقة وتزوجت وصار عندي من الصيصان ما أحمد الله عليه .. ولازلت أتناوب الرقاد على البيض انا وحرمي المصون ..
نعود لرجل الأعمال " المقوسي " فقد اختلفَ – كما قرأنا في الجرائد لاحقا – مع عصابة إسرائيلية لتهريب المخدرات على صفقة ما فقاموا باغتياله ليلا .
وفي اليوم التالي انتظرتُ الحنتور والميكروفون ولكني نسيت أنني في غزة ولست في المنصورة فاشتريت جريدة فإذا بصور الرئيس موضوعة في الصفحة الثانية والثالثة وصورة " فلان المقوسي " تتصدر الصفحة الاولى ومكتوبٌ عليها بالبنط العريض .. بعد ديباجة مطولة من ..
يا ايتها النفس المطمئنة ... وإنا لله وإنا إليه ..
نعــــي الحاج المغفور له ( فلان المقوسي)
تنعــــى عائلة " المقوسي " في فلسطين والمهجر رجل الأعمال الحاج البار ( فلان المقوسي) الذي توفي بالأمس عن عمر يناهزالثالثة والستين عاما قضاها في البرِّ والتقوى !!
ومن حينها .. كلما مات ملكٌ أو أمير أو رئيس أو مسؤول رفيع المستوى إلا وقلتُ في نفسي ... أكيــــد هذا المغفورله سيذهب حتفا لعليين والحور العين .. لأنهم كلهم كان عندهم أموالٌ تكفيهم- بالتأكيد - حتى لو عمّروا الف عام لإنفاقها على البرِّ والتقوى !!
وعطــر الله أنفاســـكم
جمال حمدان