العجيب فيما نكتب أننا نر سم الألم ، ونكسو الخيبة جمالا،
ونقترف إثم الحرف البراق ببرودة دم. وسواء أكان إصرارا منا على اقتراف ذاك الإثم أم
هفوة من اتباع الهوى وزلة اللسان كما يسميها البعض؛ فإن عدونا يتلذذ قراءة ما أملاه
علينا في بداية القرن الماضي حين كان يعلّمنا أبجديته المقيتة ويزرع في نفوسنا
كراهية تراثنا وتقاليدنا، ويتفّه فينا كل ما هو أصيل كالشهامة والوفاء والكرم
والصدق، وكل القيم النبيلة؛ ويصبغ لنا أوثانه بالنبل على شاشات دور العرض
"السينمائي" وعلى صفحات الكتب المدرسية التي كانت مقررة في برامجنا التعليمية؛ حتى
سرى السم في جسد أمتنا واعتراها ما اعتراها من أمراض بدت منذ منتصف القرن الفائت،
وتجلت فروعها كأنها رؤوس الشياطين في العقد الأخير قبل أن تعيث في عقول شبابنا
فسادا مع مطلع هذا القرن.
نسي الأديب منا كيف تصاغ الأساليب إلا ما رسّخ العدو من تحجر ألفنـاهُ في النظرة
الدونية لما لدى علماء لغتنا من تمسك بالرصانة والنسج البليغ للأدب العربي الأصيل؛
ونحن نلبس مما حاك العدو لنا من خرق الوهن والضعف كل يوم رداء أثقل وأنتن.
وبات الشاعر في مأزق بين فساد الذوق وتدني صدق الحس إلى حد لم يعد معه قادرا على
سماع صوت روحه الصارخة في قطرات دمه الآخذ في التجمد تحت ضغط الفاقة المادية
والفكرية، وتبخّر الآمال، وجليد ركام النمط الغربي للأساليب الغريبة عن هويته وعن
المحيط الذي نشأ فيه فبات لا يكتب إلا ما ترسمه يد عابثة بالقلم خارج دائرة الوعي
تتبدى من وراء صيغ مفككة منحطة الدلالات ، بذيئة لا يقبلها الذوق السليم ، بل لا
يقبل عليها إلا السافلون وكأنها " طعام من غسلين لا يأكله إلا الخاطئون " .
ومشت علينا دواليب الزمن تزيد تلكؤنا ثقلا و بطئا حتى وصلت أمتنا من التخلف ما هي
عليه اليوم. تكاد لا تؤمن بشيء غير الجري وراء لقمة العيش . وكلما جاءها الغرب بخطة
لينتزع منها جوهرة لم تعد تقيم لها وزنا، نفذت ما يملى عليها دون أدنى تمحيص. وكلما
أحكم العدو قبضته على شيء من مقدراتها وعكس لها صورة وهمية لسبب لا وجود له تبعته
لاهثة وراء السراب... فالتمست العزة بأسباب الذّل والمهانة، وطلبت التقدم بالتبعية
العمياء وتخلت عن قيمها وعن كل ما كان مبعث قوتها ورفعة شأنها فلبست ثوبا ليس لها.
غير أن أكبر عدوّ لها تجسّد في القنوط واليأس الذي عصف بروح شبابها خلال الثلاثة
عقود الأخيرة من القرن المنصرم؛ ظهرت آثاره في تعاطي المخدّرات والركون لوسائل
التغييب، رفضاً للواقع الأليم بكل الحيل والسبل لتمويه الإحباط العام واليأس
الخانق...
وكما يتلو الفجر الغسق، بانت علائم عصر الرقمية الجديد بكل تحدياته لما تعرفه
الساحة الفكرية والأدبية ، حيث سخر الله لنا سبلا لم نكن نعرفها من قبل، وبات علينا
من المسؤوليات أكبر مما كان على الكتاب والأدباء ممن سبقونا . علينا الآن بمقاومة
الظواهر السيئة في سلوك أبناء أمنتا وعلينا أن نستنهض الهمم الحية في كل بقاع
العالم من ذوي الأقلام المخلصة للحق والتي تعلي من شأن كلمة الحق وتحض على التمسك
بالأمل وحبل الإيمان المتين بالله ناصر الحق فالق الإصباح... وليفهم القارئ أننا
ندعو لإعادة الصياغة باعتماد مبادئ راسخة في جذور العقيدة وأسسها دون بث الرعب
والفوضى؛ فنحن نقاوم أولا سوء الأخلاق بالتربية السليمة على ساق الفضيلة التي يسخر
منها الغرب، اعتقادا منا أنه لا يسخر من الفضيلة استهزاء بها بل ليتفّهها في عقول
الشباب الحائر ويحل أمشاج الانحلال بدلا منها ؛ فيرسخ التبعية الفكرية والاقتصادية
والسياسية وكل ما يريد أن يبث في هذه الأمة من ألوان التفكك والأوبئة الاجتماعية .
ذلك أن الأخلاق الفاضلة كانت دائما عماد الرقي والتحضر والعدو يخاف بشدة زوال مظاهر
الحضارة وتحولها إلى أهلها الأصليين. فما قويت أمة إلا بأخلاقها وما ضعفت الشعوب
إلا بتذبذب عقيدتها وانحلال سلوك أفرادها.
ثم إننا نقاوم الجهل البغيض بكل مظاهره من أمية حرفية وأمية رقمية وأمية مقنعة. لأن
الجهل كان من أهم أسباب انحطاط أمتنا وما زال يفعل فعله في كل مكان من العالم ويعين
أعداءنا على اللعب بالنفوس وجرها نحو الهمجية قبل تحويلها عن العقيدة وقلب الحقائق
أمامها لترى الصورة كما يريدها العدو وليس كما هي في واقع الحال...
وإننا لا نلقى رفضا من أولي الأمر والنهي ولا من الدعاة للخير ولا من ذوي الضمائر
الحية، بقدر ما نجد الرفض والمقاومة من قوى الظلم والحيف الذين ينادون بالأسلوب
الأوحد لقيادة العالم على أسس الهوى وسيطرة الصفات الحيوانية على السلوك البشري
مقنعة برداء "حرية الرأي" وحقوق الإنسان المزيفة. فهم يعلمون أن عقيدتنا احترمت كل
الحقوق وأوجبت ما يجب وأباحت ما يباح وحظرت ما يضر الناس ولذلك يريدون الباطل للحق
بديلا كي يمرروا كل مخططاتهم المكشوفة لأولي البصائر. وقد آن للفاعلين بالمجالات
الأدبية والفكرية أن يعوا ما يحاك ضد خير أمة أخرجت للناس...