جمالية المكان في الرواية والقصة القصيرة
بقلم: أ.د. حسين علي محمد
............................
(1 ـ 2)
1-جمالية المكان في الرواية:
لا يُراد بكلمة المكان في الرواية «دلالتها الجغرافية المحدودة، المرتبطة بمساحة محدودة من الأرض في منطقة ما، وإنما يُراد بها دلالتها الرحبة التي تتسع لتشمل البيئة وأرضها، وناسها، وأحداثها، وهمومها وتطلعاتها، وتقاليدها، وقيمها. فالمكان بهذا المفهوم كيان زاخر بالحياة والحركة، يؤثر ويتأثَّر، ويتفاعل مع حركة الشخصيات وأفكارها كما يتفاعل مع الكاتب الروائي ذاته»(1).
ومما لاشك فيه أن الأحداث التي تتعلّق بمكان ما، قد يتعذَّر أو يستحيل حدوثها في مكان مُغاير، فالحدث الذي يدور على سفينة في البحر يختلف عن غيره الذي يكون في صحراء، عن ثالث يكون في مدينة تمور بالحركة والحياة، ومعنى هذا أن الحدث الروائي «لا يُقدَّم إلا من خلال معطياته الزمانية والمكانية، ومن دون هذه المعطيات يستحيل على السرد أن يؤدي رسالته الحكائية»(2).
ولذا «يجب أن يهتم الكاتب القصصي بتحديد المكان اهتماماً كبيراً ليعطي الحدث القصصي قدراً من المنطق والمعقولية ... كذلك ينبغي أن يعنى الكاتب بتصوير مفردات المكان الذي تتحرك فيه الشخصيات، لأن القارئ قد يستشف من هذا التصوير دلالات كثيرة، تفسر أو تعمق أموراً تتصل بالحدث أو بالشخصيات أو بهما معاً»(3).
والمكان لا يتشكل في الرواية ولا يأخذ شكله الروائي إلا من خلال ما يرتبط به من أحداث «وليس هناك أي مكان محدد مسبقاً، وإنما تتشكّل الأمكنة من خلال الأحداث التي يقوم بها الأبطال … وعلى هذا الأساس فإن بناء الفضاء الروائي يبدو مرتبطاً بخطة الأحداث السردية، وبالتالي يُمكن القول إنه هو المسار الذي يتبعه تجاه السرد، وهذا الارتباط الإلزامي بين الفضاء الروائي والحدث هو الذي سيُعطي للرواية تماسكها وانسجامها … إن المكان هو أحد العوامل الأساسية التي يقوم عليها الحدث»(4)، ولن تكون هناك رواية ما لم يكن هناك مكان ما يلتقي فيه شخص بشخص، ويقع فيه حدث ما، تحتاجه الحبكة الروائية والموضوع الروائي.
فالمكان «لا ينفصل عن أشيائه، فهي التي تملؤه، وتمنحه ذلك الثراء الذي يتميَّز به مكان عن آخر»(5). ويرى كثير من النقاد أن المكان يرتبط بالأشياء التي توجد فيه، و«ليس مستقلا عن نوعية الأجسام الموجودة فيه»(6).
يقول يوسف إدريس في «الحرام»:
«وهناك خلف الاصطبل، يرص الغرابوة مقاطفهم صفوفاً وراء صفوف، وينطلقون إلى الخرابة والأرض المجاورة يجمعون قش الأرز والأحجار، ويصنعون منها مواقد وأفرشة. وقبل شروق شمس اليوم التالي تطفح في الجو رائحة المش، وقد فتحت أوانيه وبين الحين والحين نسمع خشخشة بصلة تتكسّر، وهمهمات بنت لم تجد زوادتها، وأصوات خيزرانة الريس وهي تدق على قفة أحدهم دقا ملحاً متواصلاً يستعجل به إنهاء الطعام والمسير» (7).
إن هذا الوصف الصادق لا يستطيع أن يكتبه إلا أديب نشأ في قرية، ورأى عمال «الترحيلة»، وحاول أن يقدم عالمهم بصدقٍ وتجرد. ولا يكفي الصدق والتجرد بل لا بد من ارتباط المكان بالأحداث والشخصيات.
فلا ينبغي أن يتخلى الانشغال بوصف جمالية المكان عن المشاعر النفسية للبطل أو السارد، وهذا ما نراه في «ملكة العنب»، حيث يصف السارد «براعم» في طريق عودتها إلى القرية من المدينة بعد أن وكّلت النائبة المحامية «سعاد الدّبّاح» في فقرة نرى السرد فيها تهيمن عليه جمالية المكان، فتكوِّن المشهد السردي الذي يشي باستبداد الحزن، مع إبقاء فُرجة صغيرة للأمل!:
«عادت براعم إلى القرية قبل منتصف الليل، كانت تجلس في مقعد سيارتها الخلفي صامتة، لم ترد على تساؤلات السائق … لم يستطع أن يجرها للكلام بأي شكل من الأشكال، الطريق الضيق المرصوف يمتد تحت أسداف الظلام الحالك، والأشجار على الجانبين مثقلة بتيجانها المعتمة، وأبنية القرى في الطريق تبدو وكأنها هي الأخرى نائمة كالبهائم الرابضة أمامها، والكلاب تنبح أحياناً بأصوات مبحوحة، وكأنها تعبت من طول النباح صباح مساء، وومضات شاحبة من النور تتلصص على سطح مياه الترع الضيقة الشحيحة»(8).
إن «الطريق الضيق المرصوف» يوحي بضيق «براعم» الذي يُحاصرها، فخطواتها المحدودة في محاولة إنقاذ أبناء القرية الضعفاء الموقوفين من السجن تسير في طريق محدود ضيق، و «أسداف الظلام الحالك» تعكس الحال التي كانت تُعاني منها «براعم» لما ترى من قلة حيلتها في كشف الضر عن أبناء قريتها، وما كانت تسمعه عن تعذيبهم وإهانتهم و«الأشجار على الجانبين مثقلة بتيجانها المعتمة» تماثل الهموم التي كانت تُعاني منها «براعم»، لأنها تحمل هموم أهل قريتها، و «أبنية القرى في الطريق تبدو وكأنها هي الأخرى نائمة كالبهائم الرابضة أمامها» ترمز لأهل القرية السلبيين، الذين لم تحرك فيهم قضية اعتقال بعض أبنائهم ساكناً، فكأنهم كالأنعام، كما أن وصفه لـ«الكلاب [التي] تنبح أحياناً بأصوات مبحوحة، وكأنها تعبت من طول النباح صباح مساء » تُذكِّرنا بنباح العديد من الخادعين من أبناء القرية، الذين يدّعون فعل الخير وهم كاذبون (مثل أحمد علام)، وهاهي تبذل محاولاتها للسير في طريق محاولة الإفراج عن الموقوفين ـ حيث خطواتها محسوبة ـ لكنها لا تملك إلا الأمل الذي تمثله في نهاية الفقرة «ومضات شاحبة من النور». ويرى السارد في القرية سكينةً ليست رشيدة، إنها سكينة أقرب إلى الموات وعدم التدبر. وقد جاء ذلك من خلال تيار الوعي، فكأنَّ «براعم » تستغرب أن تنام القرى ـ كما تنام البهائم ـ وأولادها يُعانون من قيود السجن الظالم: «أبنية القرى في الطريق تبدو وكأنها هي الأخرى نائمة كالبهائم الرابضة أمامها».
والزمان هنا يتآزر مع المكان، ويُسهم في إضاءة المشهد السردي وإثرائه، فقد جعل السارد «ملكة العنب» تعود من المدينة إلى القرية ـ بعد إنجاز مهمتها التي تأمل منها خيراً ـ «قبل منتصف الليل»؛ فالظلام مازال مستشرياً، والأمل قائم في أن تعبر القرية هذه الظلمة السوداء التي تتغشّاها كما تعبر «براعم» في سيارتها ظلام هذا الليل الموحش المُقبِض.
***
دراسة تطبيقية في رواية «الأسرى يقيمون المتاريس» لفؤاد حجازي:
وقد صوّر فؤاد حجازي المكان تصويراً أخاذاً يمتزج فيه الحدث بالغاية من القص، وهو إبراز جمالية المكان مع ملاحظة المعنى الذي يُريد الإلحاح عليه، وهو أنه هناك أرض لا بد من الدفاع عنها وهي أرض الوطن، والدفاع لن يكون سهلاً، وهناك أرض فلسطين التي يحتلها العدو ويسجن فيها أسراه، كما يُذيق الفلسطينيين أصحاب الأرض من العذاب ما لا قبل لبشر بتحمله.
وقد ارتبطت الأحداث بالمكان في الرواية من عنوانها، ومن أول فقرة فيها إلى آخر فقرة.
فحينما نقرأ العنوان «الأسرى يُقيمون المتاريس» ستتخيّل الذاكرة مكاناً يُقيم فيه مأسورون، ولكنهم لا يستسلمون لعدوهم، ولا يجعلون لهذا المكان الذي يقيمون فيه بأرض العدو ـ أو يهيمن عليه في حالة «إسرائيل» فهي مغتصبة أرض فلسطين ـ لا يجعلون لهذا المكان هيمنةً على نفوسهم، أو قهراً لأرواحهم، أو نفياً للحرية التي يحلمون بها.
وتتوزع الأمكنة التي تحتل فضاء الرواية من الضفة الشرقية للقناة إلى أرض فلسطين المحتلة، التي اغتصبها العدو الإسرائيلي.
ويحتل الوصف المكاني لعنبر الأسرى في «عتليت» مساحة كبيرة يمتزج فيها الحدث بالوصف كما في هذا المشهد:
«بعد أن غيّرت جرحي عدة مرات، جعلت أقضي نهاري خارج العنبر وبدأت أدرك ما يُحيط بي. كان المعسكر الذي نُقيم فيه يحتل مساحة كبيرة تقترب من عشرين فداناً. في المقدمة مكاتب الضباط والإداريين والمستشفى، تُجاورها حديقة صغيرة، ثم عنابر من الطوب الأحمر لمبيت جنودهم. في مواجهة العنابر أرض نمت فوقها الحشائش في إهمال. على حافتها مخازن المعسكر وحجرة الإذاعة. يحف بهما ممر فرعي يؤدي إلى طريق طويل رئيسي يقسم المعسكر كله إلى قسمين. على جانبي الطريق عنابر خشبية، سقفها من الصاج المضلع، مخروطية الشكل. كل سبعة أو ثمانية عنابر تُشكِّل معسكراً صغيراً، ومُحاطة بأسلاك شائكة، ولها بوابة خاصة مُعيَّن لها حارس برتبة رقيب وجنديان، ومعهم تليفون. وغير مسموح بالاتصال بين المعسكرات. وكل معسكر صغير مُحاط بأربعة أبراج عالية، في كل منها حارسان، مع كل منهما رشاش قصير. ومن الفتحة أعلى السلم يتراءى لنا على أرضية البرج مدفع «براوننج» جواره صندوقان من الذخيرة. وأعلى البرج كشاف سهل الحركة يُحيل الليل ظهراً. والبرج مجهز بتليفون. والطريق الذي بين المعسكرات يؤدي إلى طريق آخر يلف حول المعسكر كله من الخارج. تجوب فيه ليل نهار عربات جيب مجهزة بمدافع المكنة واللاسلكي. وفي كل عربة داورية من ثلاثة أفراد. وعند أي لغط في أي معسكر نجد إحدى هذه العربات وقفت أمامه، وإن كان الوقت ليلا تسلط ضوء كشافها فيحفر طريقاً في الظلام …»(9).
ونلاحظ أن هذا الوصف التفصيلي للمكان واتساعه وكثرة أجزائه، وشدة المراقبة من حولـه، يوحي بمفارقة تُبرز لنا ضيق السارد وإحساسه بالضياع، كما قد يوحي من طرف آخر ببداية الوعي بتفاصيل المكان التي سيحاول الأسرى التغلب عليها في المستقبل في إضراباتهم، ومحاولة نفر منهم الفرار إلى مصر، عن طريق لبنان. كما يوحي لنا أيضاً بملمح من ملامح الرواية الجديدة التي تقدِّم لنا الإنسان غريباً في عالم لا يأبه به «ذلك لأن العالم أشياء صلدة لا تعرف العاطفة … ومن ثم فالإنسان غريب، في عالم الأشياء الصامتة الفاقدة للحس»(10).
ونلاحظ أن وصف المكان هنا جاء من خلال حدث هو شفاؤه من جراحه التي صاحبته فترة، والتي قال عنها في فقرة سابقة: «انتظرنا أن يُضمدوا جراحنا، وطال انتظارنا ثمانية أيام كاملة. كنت أرى جروح زملائي قد نتنت، وزحفت الديدان على أذرعهم وأجسادهم، وكان ذلك يُصيب البدن بقشعريرة، والنفس بتقزز. وكنتُ أعلم أن جرح كتفي مثلهم، لذلك كنت أعاف النظر إليه، وإن كانت رائحته النتنة تملأ خياشيمي في بعض الأحيان. كنت قرفاناً من نفسي جدا»(11).
وقد اهتم الروائي هذا الاهتمام بالعنبر لأنه المكان الرئيس في الرواية، الذي سيشهد حياة الأسرى اليومية خلال ستة أشهر ـ هي فترة الأسرـ وقد جرت أحداث كثيرة في هذا العنبر، رواها في مشاهد عديدة، منها أربعة مشاهد نتوقف أمامها:
*في المشهد الأول يُبيِّن كراهية الأسرى للمكان (السجن / عنبر الأسرى) من خلال حدث يتكرر من بدر الذي ينزع شبابيك المعسكر ليشعلها:
«كان بدر وقد أطلقنا عليه لقب «الله يكرمه» يُحضر لنا شاياً وسكراً من مخازن مزراخي، وفي كل مرة اعترضتنا مشكلة الوقود كان «الله يكرمه» يقوم بنزع ضلفتي أقرب شباك إليه، وبزاوية حديدية يكسرهما، ويشرع في إعدادهما للاشتعال، وتفنن زميل لنا في صنع مواقد من الصفائح الفارغة … ولو ترك بدر وشأنه لهدم العنبر … وبالفعل كان على وشك هدم العنبر، فقد أشعل نصف نوافذه رغم تحذيرات الزملاء:
ـ يا بدر .. الشتاء قادم وسنموت من البرد.
لا يهتم، فيضطر كل من يرقد تحت شباك أن يحافظ عليه، أو على الأقل ينزعه لحسابه، فاستدار بدر يأخذ من شبابيك عنابر أخرى. وعندما تنبّهوا له وشددوا الخناق عليه، نظر لعنبرنا كأنه يراه لأول مرة، واكتشف أن العنبر مصنوع من الخشب، وأن السقف مليء بمراين خشبية، وشرع على الفور في العمل، رغم احتجاج رقيب العنبر. واجه الجميع قائلاً:
ـ يا عم، اسكت أنت وهو .. هذا مال أعدائنا»(12).
إن شخصية «بدر» ـ كما قدمها الروائي ـ نموذج للأسرى الذين لم يتكيفوا مع المكان، بل يواجهونه بكراهية ونفور؛ ومن ثم فقد أخذ ينزع الشبابيك ليشعلها ويصنع شاياً فوقها، ويبرر لنفسه أن ما يفعله لا يستحق تقريع زملائه، لخوفهم من برد الشتاء القادم إذا فاجأهم وهم بلا نوافذ تمنع عنهم عن البرد، ويقول إن «هذا مال أعدائنا»، أي لا يجب علينا المحافظة عليه.
*وفي مشهد ثان يبين لنا السارد كيف كان المكان عدوا آخر لهم، من خلال تصوير حال المعسكر عندما قدم فصل الشتاء:
«اشتد عصف الرياح وانهمر المطر طول الأسبوع دون انقطاع، فنحّينا باللائمة على من نزعوا الشبابيك. وكان لا بد من علاج سريع، وضعنا مكان الشبابيك «كرتون» صناديق العلب المحفوظة الذي جلبناه من المطبخ، كما فردنا الصحائف واستعملناها في هذا الغرض. وأول يوم أمطرت فيه السماء كان بمثابة محزنة عامة. ها قد جاء اليوم الذي كنا نرتعد لمجرد ذكره. جاء وقد تهرأت «الزنانيب» وهُددنا بالحفاء مرة أخرى .. ومتى؟ .. في عز المطر .. وأرض المعسكر طينة تحيلها المياه إلى طبقة جلاتينية، تصلح ملعباً رائعاً لهواة الزحلقة، وتحوّلت الطرقات بين العنابر إلى جداول صغيرة، ترتفع حيناً حتى تصل المياه إلى شقوق الخشب من أسفل، نسارع إلى نزحها بعيداً، محاذرين أن يصل الماء إلى مستوى رؤوسنا ونحن نيام. وكانت خروق السقف تسمح للمطر بغزو العنبر، تتجمّع في أحد الأركان يكون سقفه خالياً من الخروق نوعاً ما، ونظل طوال الليل نجفف المياه المتسربة، وننزحها بعيداً ناحية باب العنبر .. حتى يغلبنا النعاس»(13).
وقد لاحظنا في المشهد السابق ـ الذي يمتزج فيه الحدث بالوصف ـ أن المكان هنا (عنبر الأسرى بعتليت) يمثل عدوا لا يقل شراسة عن العدو الصهيوني، فالأرض صارت بحيرة من الطين، والمطر «يغزو» المكان الذي يؤويهم، فكأنه عدو آخر عليهم مقاومته وإعداد العدة لمواجهة أخطاره!!
*وفي مشهد ثالث يصف أثر المطر على الأسرى غير مُغفِلٍ لجمالية المكان، الذي يصف فيه جبلاً فلسطينيا (هو جبل الكرمل)، ومدينة فلسطينية محتلة (هي مدينة «حيفا») وصفاً جماليا يمتزج فيه حدث الحبس بسبب المطر بحبس الأسرى، مع تصوير انعكاس ذلك على نفسياتهم، متحدثاً بلسان الجماعة، فكأن السارد هنا ـ كالشاعر الجاهلي ـ صوت الجماعة المعبر عنها:
«ومع أننا رممنا السقوف فلم نسلم من المطر. أحياناً يتغيّر اتجاه الريح فيسقط المطر بزاوية مائلة .. عندئذ تنشع جدران العنابر بالماء، ويتسلّل عبر الفجوات البسيطة بين ألواح الخشب.
حبسنا المطر والريح داخل العنابر، فلم نكن نخرج طول النهار إلا للضرورة القصوى كإحضار الطعام أو الذهاب إلى دورات المياه العائمة، والتي أصبح استعمالها مغامرة خطيرة. وكان الجو غائماً دوماً والضباب الرمادي يحف بالجبل كالمظلة، والأمطار تهطل دون انقطاع أياماً متتالية، والكرمل يبدو بعد كل مطرة وقد ازداد رقة ورهافة، أما حيفا فكان الضباب يحجبها عن أعيننا أياماً متتالية، ثم تعود إلى الظهور شيئاً فشيئاً، مع انقشاع الضباب. وأحياناً يظللها الغمام ونراها من بعيد في سماء صحوة، ومع توقعنا لهطول المطر عندنا نجد حيفا على صفائها»(14).
*وفي المشهد الرابع ما يدل على شدة كراهية الأسرى للمكان؛ فقد حاولوا تهريب بعض زملائهم أثناء حفل سمر أقاموه «التفت حلقة من الأسرى حول نفسها. أنشد أحدهم موالا بلديا. نهض وسط الحلقة راقص ماهر أخذ يهتز وهم يصفقون له على الواحدة. استرعى الغناء والتصفيق أنظار الحراس فوقفوا يُشاهدون. جذبت الحلقة المتنامية انتباه حراس البرج القريب فأسندوا ذقونهم على حافته واندمجوا مع الرقص البلدي … وبينما المرقص والغناء على أشدهما زحف أسير في خفة هر بين الحشائش في اتجاه الأسلاك الشائكة التي تفصل معسكر الضباط عن معسكرنا ، رفع الأسلاك الملامسة للأرض مسافة قدم وثبت تحتها قطعتين من الخشب على مسافتين متقاربتين ... ظللنا حتى الصباح وكأن أرواحنا مشدودة على أوتار كمان استفسرنا عن المدنيين بالإشارة فتحركت أيديهم وتكلمت عيونهم أن الأمر سار على ما يرام ... »(15).
وتمثل الفقرة السابقة حدثين ارتبطا بكراهية الأسرى للمكان والنفور منه، إنهم يستحضرون البهجة المفتقدة بالغناء والرقص ـ لهذا المكان الذي ينفي البهجة والسعادة ـ وفي الوقت نفسه يتسلل ثلاثة من الضباط هرباً من المعسكر (أحدهم فلسطيني من مواليد حيفا، ويعرف المنطقة جيدا)(16).
وإذا كان لعنبر الأسرى (أو ما يُمكن أن نسميه المكان / العدو) هذه القبضة الخانقة، فقد حاول الجنود أن يتكيفوا معه من خلال أحداث أشارت لها الرواية، كاحتفالات يقيمونها(17)، أو مجلة يُصدرونها(18)، أو تكوين لجان فنية ورياضية يتغلبون من خلال أعمالها على الملل الذي يُحاصرهم:
«تكوّنت في المعسكر لجان رياضية وفنية. تولت اللجنة الرياضية تنظيم دوري للكرة الشراب بين العنابر، وعينت هيئة حكام. وخصصت جوائز للفرق الفائزة ولأحسن لاعب … وتكونت فرق تمثيلية في كل عنبر وأنشأت لها مسرحاً في ربع منه، ولعبت روايات كثيرة، بعضها سبق أن شاهدناها في مصر، وأدخلنا تعديلات عليها، وبعضها مؤلف في الأسر»(19).
*وقد تستدعي ذاكرة السارد مكاناً مشابهاً للمكان العدو، ليوازن بينهما، مثلما قال عن سجون مصر بعد وصفه لمعتقل الأسرى في «عتليت»: «ولكن السجون في مصر مشيدة بالحجارة، ولا ينفذ منها الرصاص. وفي سجون مصر لا يطلقون الرصاص إلا فيما ندر. تقضي في السجن فترة عقوبة طويلة، فلا تسمع صوت طلقة واحدة. والسجين في مصر يزوره أهله أسبوعياً، ويستطيع بين حين وآخر أن يأكل طعاماً من منزله، وفي السجن يمارس بعضهم أي رياضة يريدها، بل وبعضهم يمارس هوايات كالموسيقى والتمثيل، وبعضهم يعمل نساجاً أو نجاراً بأجر، وفي السجن مكتبة فلا يضيع الوقت كله هدراً. وأهم من ذلك، أنه يعرف يوماً محدداً يخرج فيه إلى الحرية، مهما كانت جريمته ... أما نحن فمحرومون من هذا كله، ولا نعرف يوماً محدداً للسفر. فمن الجائز جداً أن نعود للوطن غداً. ومن الجائز أن نعود بعد سنوات طويلة. وقد لا نعود أبداً»(20).
***
[يتبع]