بعد أن قطع لي وعد بألأنضمام الى واحتنا الغناء
ليمدنا بزخم فكري وتاريخي
وافق على نشر مقالته هذه منقولة
أنه استاذ مادة التاريخ في كلية الاداب \ جامعة الموصل
الفكرة القومية في المنظور الشرعي
د.موفق سالم نوري.
بدأت الكرة تتقاذف من جديد في ملعب القومية، على الرغم من أن هذا الملعب بدأ يخسر جمهوره منذ عقدين من الزمن تقريباً، فموجة اليسار القومي في بلاد العرب تراجعت كثيراً في عقل الأمة ووجدانها، بعد ما تبين فشل هذا التيار في معالجة مشكلات واقعنا، بل إنه ألحق بالأمة خسائر جسيمة في تاريخنا المعاصر.
فالتراجعات كانت فادحة على صعيد قضية مثل القضية الفلسطينية، والقوى القومية كانت ترسخ في الواقع المزيد من حيثيات الواقع القطري المجزّأ، كما أن هذه القوى أخفقت كثيراً في تحقيق النهضة الحقيقية لبلدانها، التي بقيت تترنح عند حافات الفقر والتخلف.
ويجب أن لا يغرّنا ما تحقق من نهوض زائف هنا أوهناك، الذي لم يتعد حدود التباهي بالأطر والشكليات، هذا فضلاً عن أن العالم أصلا أخذ بالقفز من فوق القوميات، مسجلاً تراجع هذه الفكرة لحساب ما هو أوسع منها في الجانب العملي البرامجاتي.
ونحن اليوم بوصفنا عراقيين على مداخل تجربة جديدة، مصباتها النهائية تبدو مشوشة غير واضحة، وهي مبهمة وربما عن عمد، لذا وجدنا من الضروري وعند أي حديث بشأن القومية أن نضع في الحساب جملة مقدمات تأسيسية تصلح أن تكون ثوابت في معالجة هذه القضية، تجنباً للمواقف المنفعلة وردودها المنفعلة أيضاً، وحتى تكون المعالجة شرعية وعقلية متجردة عن الحس العاطفي الوجداني:
1. إن القومية حقيقة مادية واقعية، لا يمكن لعاقل التنكر لها، أو تجاهلها، فضلاً عن كون هذه الحقيقة، حقيقية شرعية؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ)، (الحجرات/13)، وقوله: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ)، (الروم/22)، وهذا ما يؤكد حقيقة الواقعة القومية، وليس هناك ما يملي ضرورة التنكر لهذه الواقعة أو العمل على محوها أو إذابتها من خلال طمس معالمها التي تجمع بين أبناء القومية الواحدة، مثل ثقافة اللغة وثقافة الملبس وثقافة المأكل.
والساعون في هذا الاتجاه إنما يبذلون محاولات عقيمة، لأنها ببساطة مخالفة لسنن الله في خلقه التي هي سنن ثابتة لا تقبل التغيير (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً)، (الأحزاب/62)، كما أن أية محاولات في هذا الاتجاه إنما تولد ردودا سالبة لا تزيد الأمر إلا رسوخاً، لهذا يجدر التعاطي مع القوميات على أنها حقائق كونية واقعة.
2. غير أن حقيقة الواقعة القومية ليست حقيقة نهائية، بل هي حقيقة أولية ابتدائية لا تنحصر برابطة الدم وليس ثمة عرق يمكن أن يثبت نقاءه إزاء حقائق العلم الدامغة، عليه فإن الواقعة القومية إنما هي واقعة ثقافية، وبالتالي فإن بوسع المرء أن يتشكل في دائرة قومية جديدة لا ينتمي إليها بالنسب العرقي، بل بالنسب الثقافي، وفي عراقنا معروف للجميع أن ثمة قبائل عربية أصبحت كردية، وأخرى غدت تركمانية، وقد حصل العكس أيضاً فثمة عرب من أصول كردية أو تركمانية، بسبب حركة الانتقال بين أطراف العراق المختلفة والتعايش الطويل المشترك بين هذه الأحوال المختلفة، بل ومن الطريف أن نشير إلى أن عدداً من قادة الحركة القومية في العراق، ولاسيما بطبيعتها الناصرية، كانوا من الأكراد أو التركمان أو الشبك، بل ومن النصارى أيضاً، والذي شد هؤلاء إلى هذا التيار الانبهار بشخصية عبد الناصر ذات الطبيعة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟.
3. وإزاء كون الواقعة القومية ليست نهائية فإن ثمة حقيقة نهائية راسخة، هي الإسلام بعقيدته ونظامه الكلي الشمولي، ذلك الدين القيم الذي أراده الله سبحانه أن يكون خاتم الرسالات (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)، (الأحزاب/40)، حقيقة نهائية خالصة، جعل الله فيها نظام الإسلام آخر ما ارتضاه للبشر من تصور عن الحياة، بكل جوانبها وحيثياتها في الوقت الذي لم تكن القومية نظاماً للحياة، بل هي ليست أكثر من وعاء بوسعه أن يستوعب نظام الإسلام، دون تقاطع أو تعارض أو تضاد، طالما أن كلاً منهما أخذ دوره الشرعي المناسب، وهنا لابد من بيان أن الحقيقة النهائية تتقدم في الأهمية والترتيب على الحقيقية غير النهائية، وبذلك يتقدم الإسلام على القومية، فأنا مسلم عربي، وأنت مسلم كردي والثالث مسلم تركماني وهكذا..
فالقومية لاحقة للإسلام في الأهمية وتابعة له يهذبها بما يجعلها تتناسب مع البعد الشرعي السليم خاضعة لأحكامه وقواعده.
4. والمسلم إذا أراد أن يدعو إلى أمر، فعليه أن يدعو إلى الإسلام وليس إلى القومية؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)، (فصلت/33)، وقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، (يوسف/108)، فالدعوة في الإطار الفكري يجدر أن تكون دعوة إلى الله وإلى شريعته ونظمه وأحكامه وعقائده، وليس إلى أمر آخر أياً كان فحواه نظاماً أو طبقة أو فئة أو قومية أو غير ذلك.
5. والرابطة القومية بوصفها رابطة أولية لا تستوجب التعصب، بل إن العصبية مرفوضة جملة وتفصيلاً بغض النظر عن موضوعها، فالتعصب للقومية أو للمذهب أو للفئة أو للحزب أو للطبقة، كل هذه العصبيات مرفوضة؛ لأنها لا تقود إلا إلى عمى و فقدان البصيرة، فضلاً عن كونها تنجب الأحقاد والضغائن، وقد تقود إلى كوارث؛ ولهذا قال الرسول () بشأنها: {دعوها فإنها منتنة}، وقوله: {ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية}.
والتعصب يقود إلى ردود فعل متطرفة، حتى يتفاقم الأمر ليقود إلى مفاهيم شائهة، فعلى الصعيد القومي فإن العصبيات لا تخلو أن تعود إلى تفاقم النزعة العنصرية، وهذه نزعة لا أخلاقية، ليس لها أي مسوغ قانوني أو شرعي أو فلسفي سليم.
6. هذا وقد نبهنا الله تعالى على أن القومية لا تصلح معياراً للتفاضل بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، (الحجرات/13)، فكل فئة أو جماعة أو تشكيل يكون أكثر تقوى لله، وأكثر امتثالاً لأوامره يكون الأفضل من غيره في كل شيء وعلى كل المستويات ولكل المهام، وهو ما أكده الرسول () صراحة بقوله: {لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى}.
7. ويرتبط بهذا المفهوم إلى حد كبير مفهوم القيادة وطبيعتها، ذلك أن القيادة في الإسلام هي للفكر وليس للأشخاص بأعيانهم، فالفكر هو الذي يقود ويوجه ويقرر، ثم إن الأشخاص لا يخلدون، أما الفكرة الشرعية فخالدة ما بقي الكون، لقوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، (الحجر/9).
والقيادة إذا أوكلت بالأشخاص فإنها توقع مسيرة الحياة في المطبات وتجعلها عرضة للأهواء والتقلبات، أما إذا أوكلت القيادة للأفكار، ويكون الأشخاص أدوات أو صيغة لها، فإن ذلك يجعل الأمر أكثر اتساقاً ويجعل حياة الأمة منضبطة بالضابط الشرعي الذي يحفظ سلامة مسيرتها وحركتها التاريخية.
وعليه فإن المتمثل للفكر الصحيح مع المؤهلات اللازمة من حيث الكفاءة والأمانة، هو الذي يحق له أن يقود وبجدارة، بغض النظر عن عِرْقه، قال الرسول (): {اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي}، وفي تاريخنا الإسلامي تصدى غير العرب للقيادة في أكثر من مناسبة، حيث انبرى السلاجقة للقيادة، ومثلهم انبرى الأكراد للقيادة ممثلين بصلاح الدين الأيوبي وأسرته، ثم انبرى المماليك ـ وهم مماليك ـ للقيادة، وكذلك كان الحال مع العثمانيين، وفي كل واحدة من تلك المرات كان مصير الأمة على موعد مع نمط مؤهل للقيادة، يخرج بها من مأزقها الحضاري، فالقيادة قرينة بمستلزماتها وليس بأشخاص أو أعراق بعينهم.
8. والحديث عن القومية يقود للحديث عن مفهومين: الولاء والمحبة.
فالولاء في الإسلام لا ينصرف نحو رابطة الدم أو النسب بل نحو رابطة العقيدة، قال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، (المائدة/55)، فأي ولاء لا يرتكز إلى هذه العقيدة إنما هو ولاء جاهلية يستند إلى عصبية منتنة، ليكون بذلك ولاءً باطلاً لا يمتلك دعائم شرعية.
وينطلق من هذا مفهوم الحب، فالعواطف الصحيحة هي التي تدور في دائرة العقيدة والشريعة، فيكون الحب في الله والبغض في الله، وفي ذلك أيضاً قال الله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ)، (المجادلة/22)، والمودة هي رابطة الحب القلبية، وهي بموجب هذه الآية الكريمة مصروفة عن كل من خالف الله ورسوله، مع أن ذلك لا يمنع من معاملة هؤلاء بالحسنى والمعروف، لكن عاطفة الحب لا تنصرف إليهم.
9. أما فيما يتعلق باللغة، فللأمر أبعاده المتعددة، فمن حق كل قوم أن يحتفظوا بلغتهم، يتعاملون بها، ويدونون بها علومهم وآدابهم وسائر نواحي ثقافتهم، وتعدد اللغات وتباين الألسنة داخل في سنن الله تعالى ومعبر عنها، وفي إطار الأمة الإسلامية، فإن تعدد اللغات حقيقة واقعة في بنيان الأمة وتشكيلها، غير أن هذا لا يمنع أن تبقى اللغة العربية لغة العلوم الشرعية المتداولة، دون أن ينتقص ذلك من الخاصية القومية لكل القوميات المشكلة لهذه الأمة، ولا سيما أن هذه العلوم الشرعية هي الرابط الذي يجمع أبناء هذه الأمة إلى بعضهم على اختلاف ألسنتهم وأعراقهم، لتجعل منهم هذه العلوم الشرعية بلزومها وضرورتها للجميع أمة واحدة فقال الله (عزَّ وجل): (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)، (الأنبياء/92)،فوحدة العقيدة ووحدة نظام الحياة، ووحدة المصير الذي تؤول إليه هذه الأمة في الدنيا والآخرة صنع من مكوناتها القومية المختلفة أمة واحدة، ولغة القرآن الكريم، جديرة أن تكون لغة العلوم التي ارتبطت به، أعني العلوم الشرعية، وكما قلت دون أن ينتقص ذلك من الخصائص المميزة لكل قومية في إطار الوحدة والتنوع، وثمة أمثلة عديدة يعيشها كوكبنا اليوم تجعل من هذا الأمر حالة مقبولة فالإنكليزية اليوم لغة عالمية أساسية في تعاطي العلوم البحتة والتقنية، والكثير من جامعات العالم تستعين بهذه اللغة في تدريس برامجها، دون أن يكون ذلك قادحاً في خصائصها القومية، كما أن مجموعة الكومنولث تستعين بالإنكليزية بوصفها لغة الثقافة والأدب، والمجموعة الفرانكفونية جعلت من اللغة الفرنسية لغة للثقافة والأدب، دون أن يفقدها ذلك شيئاً من خصوصياتها، مع أن هذا الاستخدام للفرنسية والإنكليزية لم يقترن بضرورات شرعية بل ارتبط بواقع تاريخي وعملي، فكيف بالأمر إذا ارتبط بدواع شرعية، عندها يكون الأمر أكثر ضرورة فقضت مشيئة الله تعالى أن تكون لغة القرآن عربية، ولغة العبادات عربية (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً)، (يوسف/2)، والمسلمون بمختلف انتساباتهم القومية قدموا للعربية خدمة تفوق ما أسهم به العرب أنفسهم، ولم يكن ذلك سوى تعبداً لله تعالى ومحبة لهذه اللغة وللرسالة العظيمة التي حملتها إلى البشرية، وهي الإسلام.
10. وثمة ملاحظة أخيرة جديرة بالاهتمام، وهي أن العالم يسير اليوم باتجاه التكتل، فهذه أوربا تجتهد في توحيد نفسها في قوالب سياسية واقتصادية ودستورية، دون أن تفقد مكوناتها وخصائصها القومية، فقد وجدت أوربا في وحدتها ضمانة لحفظ مصالحها في عالم يتلاطم فيه الأقوياء والكبار ساحقين الصغار تحت أقدامهم، ومن هنا تسعى أميركا إلى تفتيت العالم إلى وحدات صغيرة حتى يسهل عليها التهامها، فأميركا لا تحب أحداً ولكنها تعشق مصالحها.