" هناك قلة من الملائكة تنشد، هناك كثرة من الكلاب تنبح": لــوركا.
" في كل قصيدة عظيمة ، قصيدة ثانية هي اللغة" : فـاليري.
بصدور مجموعته الشعرية:"عصافير الوشاية"(1) يمضي الشاعر المغربي عبد السلام المساوي قدما في تعميق تجربته الشعرية ، التي تمتد في جذورها إلى ديوانه الأول"خطاب إلى قريتي"، مرورا بديوانه"سقوف المجاز"،إذ يعمق حواره مع العالم المتغير بسرعة فائقة ، من خلال رصده لموجوداته عبر اشتغال حساس لحواسه في تعالقاتها مع الواقع اليومي، وصهرها في "بوتقته"الشعرية ،وإذابتها مع المدركات الأخرى المختزنة في طبقات وعيه، مما يشي بنوع من الشعور بالفقد أو الارتداد إلى صور الماضي المحملة بعبق عالمه، لأنه كان يحضن عناصر القوة ، في مقابل الحاضر الممتد في مستقبل خال من الآمال والأحلام، وهو ما أسميته في دراسة سابقة ل"سقوف المجاز":"شعرية الفقدان".
و"عصافير الوشاية" يمثل تطورا واضحا في مسيرة الشاعر من جهة ، وتنويعا على إيقاع الرؤيا الشعرية من جهة أخرى، من خلال ملامسته العلاقة بين الذات والعالم ،المنفتحة على حقول دلالية تشكل الرؤية الكلية ، لذلك يمكن مقاربة هذا الديوان على أكثر من مستوى ، ووفق أكثر من قراءة ؛ يمكن قراءته كفصل من تجربة الشاعر ، كرؤية وجودية ،....تحيل على تشكيل فسيفسائي يمتح من ذاكرة محتشدة ، تضمن التعارض بين الكوامن الذاتية والموضوعية، ومن هنا مشروعية ملامسة بعض جوانب المتخيل الشعري في هذا المتن.
وشـــاية العـــنوان:
ما دام العنوان يؤسس غواية النص ، وعلى اعتبار أن عنوان"عصافير الوشاية" يسم أحد نصوص المجموعة ص، فإن الشاعر يفاجئنا فيه بصيغة تناقضية ، مبنية على التعارض، في الإحالة على الدلالة المعجمية الحرفية بين مفردتي(عصافير)/الملموسة ، باعتبارها تلك المخلوقات الصغيرة والوديعة،و(الوشاية)/السعاية والنميمة/المجردة ،كرذيلة مرتبة ضمن سلم القيم الأخلاقية والاجتماعية المنحطة : إنه التعارض بين الجميل والقبيح ،بما يحمله من قلب طبيعي بين العنصرين، على الرغم من علاقة الإضافة المحضة بينهما على المستوى النحوي التركيبي ، القمينة بإزالة إبهامهما وشيوعهما، وهذا ما يفضي بنا إلى إعادة بناء مقومات انسجامهما حتى تغدو العبارة قابلة ألتأويل، وبما أن العصافير تعد أجمل رمز من رموز الحرية ،لأننا بمجرد النظر إلى السماء ورؤيتها تطير وتغرد ،نشعر بروعة الكون وجمال الحرية فساحة السماء، وهو ما يتقاطع مع النص الشعري في المواصفات المذكورة(الشعور بالروعة ، الجمال ، الحرية) ، ومن ثم ، فالعصافير المغردة في حياتنا الثقافية هم الشعراء ، عصافير المحبة الأليفة ، وبالتالي تحيل في العنوان على قصائد الديوان ، وتكون رمزا للشعر، في حين ترتبط(الوشاية)،في إحدى معانيها اللغوية ب"استخراج معنى كلام أو شعر"(2)،لتتقاطع مع معناها الإيحائي في الدلالة
وبالتالي تصير "عصافير الوشاية" طيورا للشعر التي تنهل حقول القمح وفضاءات الدفء وفسائل الوعي وحنين الإبداع الحر من كل القيود، وهكذا يبدو العنوان ،الذي هو في حد ذاته وشاية بنصوص الديوان الشعرية، حاملا لطاقة تحفيزية تتصيد المتلقي ،ومخلخلا لأفق انتظاره ، فاتحا شهية المتلقي لقراءة تفاعلية مع عوالم المتن، التي هي في حد ذاتها وشاية بنصوص المجموعة.
متخيل الإغتراب واغتراب المتخيل:
للمتخيل الشعري وضعية استثنائية في كتابة النص الشعري ، بوصف الخيال يشكل عنصرا بانيا للخطاب الشعري، الذي تندغم فيه التجربة الكتابية بالتجربة اليومية، والشاعر في "عصافير الوشاية" يواجه مفارقات الوجود والمجتمع بمفارقات لغوية وتركيبية أخرى ، وذلك بركوب درجات المكر اللغوي لتشكيل متخيل شعري يعكس مشهدا يوميا يشوبه الكثير من العبث والإحباط لانعدام التواصل بين الشاعر وعالمه، وسيادة تيمة الغربة والاغتراب والألم والضياع ، لذلك يتقمص الشاعر رموزا لما يعانيه في حياته اليومية ، وهو إذا ، بهذا المعنى يرسم بعين الدهشة ، ويعيد صياغة موضوعاته الصغيرة ، ويكتشف العالم بحقائقه الصغرى، إن عالمه يشكل بؤرة انشغال ما لا يرى بالعين المجردة:"الكمان الذي أبكاني / خشب يحن إلى غابته / والعازف نبي / يعرف لغة الشجر"(ص60). وكل قراءة لنصوص الديوان هي اكتشاف أول للعالم وأجزائه ،فقصائد المجموعة تبدو طازجة ، لأن عناصر عالمها تولد في نفس لحظة التلقي المتوازية معها، وبالرغم من كونها تحمل مواصفات البعد الخارجي فالداخلي يتمرأى في مراياها ،ولذلك ، فالشاعر ينتقل من الداخل إلى الخارج ، ومن الخارج إلى الداخل، عبر شعور فجائعي بالضجر والفقدان والغربة المندفعة من الأعماق البعيدة ، والأغوار الداخلية السحيقة ،فها هو غياب الأم الباعثة على الخصب ، والتي تغمر الكون بهجة وصفاء:" تستيقظين الآن / في الهزيع الأخير من أرقي / فتنتصب الأشجار مثمرة من جديد / وباسقة كارتفاع الصلاة.."(ص 10 و11)،لذلك تسافر ذات الشاعر في الذاكرة:"لحظة وينبسط الطريق إلى قريتي / مخفورا بالصبر والصبار/ لحظة وتنهض الطيور من فخاخي / شادية رغم انكسار الجناح.."(ص11)، وحرقة غياب الأم التي تستعر في فؤاد الشاعر هي التي تفسر ذلك التعارض بين الغياب/الخصب والحضور /الغربة والضياع والموت:"باب، ويدخل الخريف/كي يشرب شايا في عز الخريف/باب،ويخرج الصيف/من حديقتنا/حاملا في الجراب أجراس الدوالي/ وشمسا أنهكتها/منحدرات الغروب/باب يغوص إلى الرتاج في غيابه."(ص13و14) ، وهكذا تكشف الذات خيبتها ، فتستحضر ذكرياتها الطفولية، وهي تستعيد أحلامها وهواجسها السعيدة في أحضان أم لم يجف نسغها بعد رغم الموت :"..ولم تزل عيناها تشعان بالفرح/ وهي تراني مقبلا من أيما جهة/من سحب يكسرها الرعد/أو من ليل تعثر في نصفه النجم.."(ص7و8)،فتتعاضد الرؤية والبراءة الطفولية لتجديد مواسم الفرح والخصب ، لكن مشهد الانكسار ينبئ بأن الزمن ما يزال حاملا سمات الهزيمة والفجيعة:"..وتبعثين في الحكاية، أشلاء السلالة/وتاريخ الموت/ وأبواب الجنة التي دونها/شيوخ الحضرة في الأذكار.."(ص11) ، ثم تنفتح الرؤيا الشعرية في الديوان من أجل استقصاء تيمة الاغتراب ،حيث يحفل المعجم الشعري بكل الألفاظ الدالة على الاغتراب والغربة ، وما يتصل بهما من أوجاع المكابدة والمعاناة : (غربني، خوفها،الرياح،يكسرها، ليل، الصمت ،جفوة الوقت،الظلام،بلاد بعيدة ،الشوق،التائه،أرقي انكسار الجناح،تاريخ الموت،الانتظار،ذبحي،منحدر ات الغروب،غيابه،ضجر،حبات الأرق،أخبار الموتى،منطفئا،تجمد،غربة،ت هنا،تنطفئ المصابيح،غرباتنا،زهور التعزية،المتاه،ثعابين الارق،الغائب،يغيب،تعب المسافات،الخائف،أوجعه،فرا غ،غيمة،أرقة الظلام،رماد الأجنحة،لسعة الحرب،أزرار التعب،مرتبك بوجودي،العاصفة،خلوة،أزمة، ريح الحنين،مجد الغروب،عناكب الغياب،الخاتمة،الباب،الغا مضون، الصخب،يغيم الضوء،الغبار،،اختطفتها،قي امة الشعراء،النار،الطفل التائه،التعب،الهاجعين،حان ات الأحلام،صفحة الوفيات،جهة السواد،لذة الظلام،أزهار الظل،تهرب،الهاربة،دمعتين، الوقت المنقوع،المجهول،الصقيع،ال طيف،حزن،العابرين،تورماتها ،الصمت،العمر،الصدأ،أرحل،ا نطفأت،قوس الألم،جلباب السفر،أبكاني،الشجى،سواد تابوته،وتر مهزوم،توابيتهم،الحطام،صال ات الظلام،الغابة،زهوره الناعسات،لم يمت،سافر،الصقر،الشيخوخة،غ ريب،البحر،شاعر تغرب،يمجد الغياب،الغريبة،تغيم الألوان،تنتشر الطرقات،تغادر، الرحيل،النعش،القطران،عطش الغروب،المترع بالموت،يباس الشفاه،الفجيعة،أقحوان العذاب،الموت،الفراق،مداشر الأحزان،طلل،ينطفئ كالذبالة،رصيف الحرب،يغتالون زهرتي،العقم،الإفلاس،قبوره م،القراصنة،الجنازات،الترا ب،الفقيد).ومن تم نشهد استمرار الشاعر لاحتراق الغربة والضياع في هذا الكون المظلم الذي ينضح ضجرا:"ضجر يأتي من كل مكان/من الساعة التي تحصي/راحتي غمزا بالثواني/إلى الصنبور الذي تقطر/منه حبات الارق/ومن الجريدة التي تتكرر كل يوم/كي تجدد أخبار الموتى/إلى منصة/تتقبل العزاء في الشعراء../.."(ص17)،لذلك تحتمي الذات بسقف الحلم، فيتحول الحزن من حمولته الشعورية التخريبية:" قل لي:/ من أي حزن/يقدون هذا الوتر/أيها الصوت الذي اتحد بالشجى/.."(ص60)، فيغدو الزمن مادة للتطهير في غابة الحروف:"لكنني أبدا /سأظل أرحل نحوك/في سفينة أصنعها/ من رغوة الكلام"(ص58).وهكذا تعي الذات تفاهتها، فترفع درجة المقاومة لقهر زمن الضياع والغربة والفقد، ومن تم تتغيا ملء الفراغ:"أخشى أن أنام /قبل افتضاض الصفحة/قبل أن أسحب النار إلى آخر اللفافة../جبانا أكون/إذا لم أسيج حقولي باللغة:.."(ص42و43)، ويبقى للشاعر سلاحه الأخير المتجلى في انغماسه في الكتابة" سأختفي في غابة الحروف/ باحثا عن أبي/لأرشده.."(ص43).وهكذا تتنامى الذات في حاجتها إلى الانفتاح على المتعدد، والتحليق في الآفاق اللامحدودة،وفي هذا الأفق التخيلي تتقلص الأرض لتتماهى مع المومس:"كأن الأرض مومس/ تتبرج بحنطتها/عندما يجوع الأغنياء.."(ص30)،ومن تم شوق الشاعر إلى محو الواقع بالطريقة الصدامية، فتتأرجح ذاته بين العواطف المتناقضة، فتجتاحها عواصف العبث واللاجدوى في الوقت الذي تتشبث فيه بنشوة الخلق ولإعادة تشكيل العالم:"لذلك أحلم بأني أنام/ وأن العالم من حولي/يحمل وسادة كبيرة/ ويتجه متثائبا نحو السرير"(ص28)،وهكذا يقدم الشاعر في الديوان صورة كبرى تحمل دلالة الانكسار والإخفاق في تحقيق ما يصبو إليه، وهو حالم كبير، وحلمه هو أن يدرك الحقيقة ، ويستجلي خفايا المجهول، لذلك يجرجر حلمه معه حيث الغرق والمتاهة والضياع،فلا عجب إن وجدنا الصور الكثيرة مشحونة بمشاعر الضياع:ضياع الأم ، ضياع المكان،ضياع الشاعر، ضياع أهل الكهف، ضياع جيل السبعينات، ضياع الراقصة، ضياع المتسول..، وفي المقابل هناك صور مشحونة بمشاعر العظمة: الأم ، الأب، أمينة، الهدهد، النسر ، العندليب،الشاعر..، وكأني بالشاعر يقيم توازيا بين الفعل ورد الفعل ، ومن هنا صوت تمرده واحتجاجه في وجه العالم المنظور واللامنظور، وهو ما قاده لأن يعيش اغترابه على الطريقة الكفكاوية.
شعر لا يشبه السرد،وسرد يشبه الشعر:
تظل نصوص:"عصافير الوشاية"نصا مفتوحا لأنها تلغي الفوارق بين الشعر والنثر من جهة ، وبين الأجناس الأدبية من جهة أخرى،لذلك فهي مفتوحة على الكتابة بمعناها الحديث،زمن المداخل المؤدية إلى باحاته وأعماقه هذا التنازع بين الشعرية السردية والسردية الشعرية ، فالشاعر لا يضع حدودا واضحة بين الشعرية الصافية وبين السردية المكتملة مقوماتها،فهما يتقاطعان مع بعضهما، وهنا تكمن قدرة الشاعر الجميلة في إبداع نصوصه،ففي بعضها تتمثل السردية وكأننا نقرأ قصة (كحل غربني عن عيني،السبعينات..)في حين تأخذنا قصائد أخرى لحدود الشعرية بحساسيتها المرهفة(عصافير الوشاية ،أحلم بأنني أنام،سأبرر للعاصفة..) وفي نهاية المطاف نعثر على تزاوج وتناغم جميل بين الشعر والسرد، والمقصود بالسرد ، هنا،ليس معناه القصصي الحديث ، بل معالمه في عرض الحدث الشعري، الذي تتمظهر ديناميته السردية بواسطة التنامي في الحدث ، بل وفي الأسطر الشعرية المشحونة بالأفعال(شيدن، مجدن، يعيد، غربني ، يحرسني، تحركها، تراني، يكسرها،تعثر ، تجمع ، غاصت ، تستيقظين، يفصلني، تقبلين، تحملين، تواصلين، تبدئي،تهب، يبحث، يخدع، يعلو ، يتشقق، يعود، تحفك، لطخته، تغفر، تمسح، ينبسط، تنهض، أعرف، ارتفع، أذكر، أقام،يمنع، يحرس، يبارك)(هذه فقط أفعال النص الأول، فما بالنا بجماعها في جسد الديوان)، وهي أفعال مشتتة الضمائر بين الغائب بنوعيه المذكر وجمع النساء و المؤنث،والمتكلم وضمائر الزمن والأشياء في لقطات تكاد تشبه مثيلاتها السينمائية،أو ليس هذا السرد الجميل يتنصل فيه الشعر ذاته،أو هو سرد يحاول الشعر أو شعر يفتعل السرد، ويشي به /الوشاية ويفضحه،في تلاقح أخاذ يرتق العالم الشعري للمساوي، بما هو وعي بتقارب الأنواع الأدبية ،وتجاوزها للمعهود، والشاعر ينطلق في هذا من استفادة الشعري من السردي ، على أساس الانطلاق من عالم الشعر ، والعزف على ما يقوي لحمته وسداه، ويوضح رؤيته، ومن هنا يتناص الشعر مع السرد في الديوان على المستويات التالية:
- التناص الموضوعي :يهم فضاء اشتغال القصيدة والسرد موضوعاتهما
- التناص اللغوي : يتمثل في استعارة الخطاب القصصي والمزج بين الأصوات للتعبير عن أنا الشاعر وأنا النص وأنا القارئ.
- التناص الفني: ويكمن في مدى استيعاب إمكانات أسلوبية وفنية كالذاكرة والطفولة والرمز والحكاية.
وبهذه العملية التناصية يتم تحويل ونقل الواقع إلى لشعر،عوض نقل الشعر إلى الواقع ن وهو ما يخلق جمالية من نوع خاص ترنو إلى تشعير الواقع والانتقال به من الخطية إلى النصية ،عبر إقامة بنية من المعاني وترسيخها خارج المعاني المألوفة ، وهو ما يتبدى لنا في هذا المقطع/:كان يخرج عاريا من رماد الأجنحة/ويسحب اللغة من موتها/إلى شعلة تتبدى/في أفق بعيد/ليس له خوذة /تحميه من لسعة الحرب/ولا مهرة/تركض في طريق النجاة.."(ص31)، ففعل السرد التقليدي(كان) يفتح النص على عالم سردي رحب تعضده الأفعال الحاملة للحركة والتحول(يخرج، يسحب،..)، وتدخله في حساسية تعتمد الإثارة والإدهاش وكتابة المهمل اليومي ، والشاعر خلال ذلك يواجه سيلا من عوالم العبث ليمارس أفعالها في الاغتراب والذهول، ومن تم إلغاء تلك المطابقة الممكنة بين اللغة والواقع لإنتاج معانيه المبنية على المفارقة:"عاريا من رماد الأجنحة ، يسحب اللغة من موتها،...)، زهنا يتفوق الشاعر في رسم وخلق الاختلاف المبني على المفارقة اللغوية، فتنفتح نصوصه على قوى السرد في بعض مفاصله، في حين ينفتح الشاعر على فضاء الكتابة الأرحب في مستوياتها الرؤيوية والرؤياوية ، ونتيجة لذلك تتحول نصوصه إلى علاقات سيميائية من التركيب الشعري،فبنية النص المساوي تتركب من جملة ذات شفرات لغوية تحيل على دلالات شعرية قائمة على التنويع والثراء في المضامين وخلق دينامية شعرية في خطابه،ولنتأمل قول الشاعر:"أيها التمثال/الذي يرتفع في الرخام/يا من أعطى للصمت بياضه/وعلم الصلابة أن تنحني/ مهزومة الجبين../بالله أخبرني/من علمك هذا الصبر؟/من أوحى لليد /بأن تشيد مجدها/ من وطأة الانتظار"(ص57)، فاستنفار حركة الفعل داخل هذا المقطع(يرتفع،أعطى، علم، تنحني، أخبرني،علمك، أوحى، تشيد)يمكن عدها هي الفاعل التركيبي لشفرات المقطع،فالمعاني الملتبسة في المقطع وظلالها يقودها الدال لإنتاج المركب الشعري ، ونقله الى مدلولات متعددة، وبعد عملية إحصائية ألفينا الفعل يتوزع نصوص الديوان على الشكل التالي:
عنوان القصيدة عدد الأفعال المترددة فيها
كحل غربني عن عيني
عصافير الوشاية
أحلم بأنني أنام
سأبرر للعاصفة
غابة الحروف
السبعينات
من أي حزن يقدون هذا الوتر؟
دمهم تناثر في الأغنيات
لحن عسكري لأغنية عاطفية 57
48
63
27
43
38
66
94
43
وهو ما يوحي أن المحمول الفعلي في الديوان هو بؤرة النسق الشعري عند الشاعر، وتردده في النصوص مرتبط بدلالة النمو والتجدد، وهو ما يمنح للشعرية السردية استمرارها وألقها ن وهذا يعني استمرار الحدث الشعري في الزمن بصوت الفعل، فتوتر الشاعر واغترابه وما يعانيه يجعله يصرخ من خلال الفعل موزعا بين الموجودات الشعرية بعض ملامح اغترابه ،لذلك يتساوى العالم الداخلي والخارجي، يقول الشاعر:"ضجر يأتي من كل مكان/من الساعة التي تحصي/راحتي غمزا بالثواني/إلى الصنبور الذي تقطر/منه حبات الارق/..."(ص17)، والأفعال في هذا المقطع(يأتي، تحصي ، تقطر ،..)تحمل شحنة زمنية تنم عن توالي الإحداث بحرفية لتتحول إلى أفعال مسندة إلى الأنا الشعرية المفردة بصيغة الجمع، حيث تتعالق الجمل والمقاطع بمنطوقها اللفظي ودلالاتها الإيحائية، ليبقى الفعل هو محركها تجاه بناء تفاصيل ودقائق متعددة ومتنوعة،فالساعة تحصي راحة الشاعر، والصنبور يقطر أرقا، والجريدة تجدد يوميا أخبار الموتى..وهذا الحوار بين هذه الموجودات الشعرية يبعث الحيوية والحركة في النص، وهو ما يحقق تناميا على مستوى التركيب وتوليد المعاني، ويمنح الجمل الشعرية صفة الاكتمال، فتتراكم الصور عبر التكثيف بواسطة التعبير السردي والتصاعد الدرامي ، وهو ما نجده باديا ،أيضا ، في المقطع التالي:"أن يجلدني صوتك/في ليل لا يعرفني/ أن تنحدر اللغة/ إلى هاوية قواميسها/أن تجهشي في الخاتمة/فذلك لأنني مرتبك بوجودي/أو لأنني مندفع/ نحو صباح متعثر برصيفه/.."(ص35)، وحتى حضور الزمان والمكان يحيلنا إلى فضاء القص الذي يتشعرن بكثافة وقوة محمولات العناصر الداخلية في انعكاس الفعل السياقي وفعل الراسب الشعوري بوصفه خطابا للآخر المقترن بالأنا اقترانا جوهريا:"الجنوبي الذي أيقظني/ أودعني خوابي أسراره/وانصرف../ رأيت زهوره الناعسات/و"جوارب السيدة المرتخية"،/رأيت كليبا يعلق جرحه/قبل أن يفيء إلى صمت القبيلة../.."(ص69)، وتتعاضد عناصر أخرى لترسيخ هذه الشعرية السردية كاستدراج المفارقة والسخرية والتضاد والتوازي، وهي كلها تحيل إلى الحيرة والدهشة تعبيرا عن تناقضات الواقع المتقاطعة مع جماليات الحياة:"لم يعد هذا اسمي/صار قناعا/يلبسه الضاحك والباكي /والقابع في الحانات/ يحصي الليالي / التي بلا قمر/ والخائف على ملامحه/من شهقة الأبرياء../.."(ص27)، وهذه الموجهات تغدو مشتركة في الاستذكار والتخييل، بانية معانيها بتبادل المواقع السياقية وإسناد الصفات والضمائر لتنتظم الدلالات في طاقة الجمل الشعرية التي تتنازعها الصور الشعرية، ويسترسل الشاعر في بناء مشهده الشعري بواسطة الفعل الحكائي بعناصره المتواشجة ، حيث تحيل بعض الصور إلى اشتغال الذاكرة في استدعائها للماضي(كما في"كحل غربني عن عيني..)،إضافة غالى توصيف أفعاله بإسناد الشاعر الحكاية إلى أناه(كما في"أحلم بأنني أنام"..)،أو إلى الآخر(كما في"عصافير الوشاية "،"دمهم تناثر في الأغنيات"..)أو حين يمتطي حالة شعرية داخل متن الأنا وعلاقتها بالأنا الأخرى (كما في نص"من أي حزن يقدون هذا الوتر؟")، حيث يتم الانفتاح على الرؤى الوجدانية المتدفقة أو الرؤى المركبة المحيلة على علاقات الاستبدال والاسترجاع والتماثل وفاعلية الانزياح.
ويحتفي فضاء النصوص بلغة تحيل ، مباشرة إلى مراجعها، على الأشياء كما هي ، وهكذا يبدو فضاؤها مجالا للرؤية وزاوية النظر،إنه فضاء موضوعي..ينتقل الشاعر/السارد في وصف الفضاء، موضوع التجربة، لا تجربة الموضوع، و لا تجربة الذات إزاء الموضوع،ويبدو ذلك في قول الشاعر:"لم أعول على القلب كما كنت/ والعينان تركتهما على رصيف الحرب/ تمتلئان حقدا/ على أشباح المجد الذين تقرأ صحيفتهم/ في نشرة الأخبار/ وهم يغتالون زهرتي/بمحض بلادتي".."(ص 86و87).فالشاعر تغدو أناه مجردة تعكس التجربة الجماعية العميقة،كما في نص"لحن عسكري لأغنية عاطفية"،وكأني بالشاعر يحكي تارة عن أزمة وجودية تعاني منها ذات منفصلة عن العالم الخارجي،ذات تعايش وتشعر،ذات تفعل وتنفعل، ويتضح ذلك في نص"غابة الحروف"،والمتأمل لهذا النص، يشعر بين الفينة والأخرى بنفحات شعرية تداعب الحس لما يبدعه الشاعر/السارد من انزياحات كقوله(الغامضون يلفظون دخان شحوبهم)و(الشموس المحشوة بالعسل)و(يغيم الضوء فجأة)،و(امرأة اختطفتها ذات رواية / من إحسان عبد القدوس)..،وهنا يؤنسن الشاعر الأشياء بواسطة الانزياحات الجديدة،فيبتكر علاقات جديدة بين الموصوف والصفة ، الفعل والفاعل، المضاف والمضاف أليه...وهو ما يحدث مسافة متوترة بين المعنى ومعنى المعنى ، وتبعا لذلك تتوتر العلاقة بين اللغة السردية الدالة على العالم واللغة الشعرية الدالة على مشاعر الذات، وهو ما يستتبع أيضا أن تتبادل الذات (الشعرية) اللغة الدالة عليها مع الأشياء والناس، كما تتبادل الأشياء والناس(السردية) اللغة الدالة عليها مع الذات، فتقترن لغة الذات بلغة العالم في تناغم جميل في كتابة تبدع شعرا لا يشبه السرد وسردا يشبه الشعر.