لدغة عقرب
بقلم : سمير الفيل
العسكري غريب لدعه عقرب في ساقه أسفل الركبة . كان يشاهد الدبابة " السنتوريون " القابعة أعلى التبة ، والمضروبة في الثامن من أكتوبر ، عندما تسللت تحت بنطلونه الكاكي ، فتمسه قشعريرة ، ثم تسري النار في جسده للحظات ويصرخ بكل قواه في الصحراء من حوله .
ارتمى على الأرض الرملية وزعق في رفاق السرية ، فطوح الريح صراخه . حينها تحامل على نفسه وأمسك بفخذه ، وزحف نحو الموقع . رأيناه جميعا بوجهه الممتقع . سأله العريف مختار : " خير .وشك مخطوف ليه؟ " .
انتزع كلماته والعرق يتفصد به جبينه : " العقرب لسعني ! " .
أسرع عبد الحكيم ، وربط أعلى الجرح بمنديله الكاكي وعندما رآه الرقيب يحيى نهره ، وطلب أن يأتي أحدنا بسلك التليفون الميداني .
عندما رفض جندي الإشارة إنتزعه في عنف : " العسكري هيروح في شربة مية ! " ثم ربطه بإحكام أعلى اللدغة.
في حفرة صغيرة أشعل بعض أرانيك الذنب ، وسخن مشرطا حتى أحمر تماما . صرخ العسكري غريب والمشرط يشق الجلد ، وينغرس في اللحم ، فيتدفق دم له زرقة لم نرها من قبل ، ثم راح الرقيب يحيى يمتص بفمه الدم الفاسد ، ويتفله مرات ومرات .
مددوه على السرير الصاج في ملجأ الفصيلة الثالثة ، وضربه صابر على كتفه : " عقرب يعض في عقرب . تيجي إزاي؟ " .
كان دمه هاربا فطمأنه العريف مختار بأن لا خطر مطلقا طالما الإصابة بعيدة عن القلب . وحده الصول حنفي الذي تمهل في سيره أمام باب الملجأ ، هو الذي هتف فينا عندما رأى انزعاجنا : " أنتم تعملوا من الحبة قبة . الخوف على العقرب مش على العسكري غريب ! " لكن قفشاته لم تضحكنا هذه المرة . أحس بذلك فجلس بيننا صامتا .
شمل الموقع كله ترقب وقلق ، والتففنا حوله نواسيه ، ونكلمه عن أخطار أخرى لم يعرفها . عن قنابل الألف رطل ، ودانات تنفجر في الهواء فتطيح بالإنسان وتدفنه حيا دون أن يتلفظ بكلمة .
عندما علم الملازم صبحي الجلاد بالأمر أتى إلى الملجأ على عجل . قمنا جميعا حين رأيناه يحني رأسه ويلج المكان من الفتحة الضيقة.
أشار لنا أن نعاود الجلوس على أاطراف الأسرة التي صنعناها من الصاج المتعرج وغرارات الرمل .
سأله في لوم مشوب بعتاب : " أيه خلاك تروح هناك ؟ " .
أجابه بصوته الواهن أنه أراد أن يشاهد الدبابة عن قرب ، وأنه حين صعد البرج ، ورأى التجويف الهائل داخل الهيكل الحديدي أنتابه الزهو لأن " القول " بأكمله ضرب في نفس المكان فانفكت الجنازير وعطبت الدبابات ، وأن الماسورة المتجهة ناحية بيوتنا وأهلنا منذ تلك اللحظة صارت بلا خطورة بقذيفة ال م . د .
كان يريد فقط أن يرى شيئا من رائحة أكتوبر ؛ لأنه دخل الخدمة بعد انتهاء الحرب بأشهر قليلة.
ربت معاطي على كتفه : " ماشفتش عفرة الحرب ولا شميت ريحة الصدام ! " . غاب عنا سؤال كان ينبغي أن نسأله المصاب، نطق به الملازم : " إنت قتلته؟ " . سأل العسكري غريب بدوره : " مين؟ العقرب؟ أبدا " .
في سرعة البرق تحركنا جميعا . كل أفراد السرية . بالعصى والكواريك والبلط . هرولنا ناحية الدبابة " السنتوريون " الإسرائيلية . كانت ترقد كجثة هامدة فاقدة الروح ، ومن حولها قذائف ال م. د التي لم تنفجر ، وبعض معلبات الصاج ، وأعشاب قليلة يابسة ، صفراء اللون .
رحنا ندور حولها ، ونضرب الجسد الصلب بما في أيدينا ، وفجأة وجدناها تتحرك بجرمها الضئيل ، ثم سرعان ما تسللت واختبأت داخل البرج ؛ فلم نعد نراها .
قضينا وقتا نبحث عنها دون جدوى حتى هبط الليل . عدنا في قلق إلى موقع السرية ، ونحن نتواعد على النهوض عند أول شعاع ضوء لنسحقها بكل الغيظ والكمد في صدورنا .
أكتوبر 1974.
تبة الشجرة بسيناء.