ســت الكـــــل
كرقّاص الساعة ، راح المؤذّن يذرع ساحة المسجد جيئة و ذهابا ، انتظارا لبزوغ "الحاجة ".
كان صرير بابها الخشبي مؤشرا على دخول وقت الصلاة ، تلك التي ما كذبتها الشمس
ولا خيب حدسها الطقس .
عشر مرات تمايلت ساعة جيبه فوق كفّه معلنة حلول العصر لكنه دسها بنزق و جمع نظره باتجاه الباب قائلا في سرّه : بَريق وضوئها أدق من ساعة "بيج بن".
أرتال المصلين تقاطرت حوله مطالبة برفع الأذان وقد عزمت الشمس على الرحيل و هو يغلظ الأيمان:
" حتى تخرج ست الكل ولو صاح الديك "
النسوة في "عين ماهل " تركن ما في أيديهن وهرعن طمعا في سبق صحفي .
فمن محللة : ( بأن المؤذن ذهب إلى "الناصرة "ولما يعد )
و أخرى تقرر : ( زكام خنق الأذان في حلقه )
وثالثة تؤكد في وصلة من الغِيبة : الحيزبون زوجته هي السبب.
ورغم قرار الإنجليز بمنع التجمع لأكثر من واحد فقد شكلت التساؤلات مظاهرة عفوية لو علم بها جنود الاحتلال لما عادت " عين ماهل" بحاجة إلى الأذان .
ونزولا عند رغبة الجموع وافق المؤذن على إطلاق سراح الأذان بعد استطلاع أمر
" ست الكل "
و انطلق متبوعا بالهمس و التأويلات و اللغط و الهمهمات .
تعالت الطرقات على باب "الحاجّة " دون إجابة ، ضربات كان نصفها كافيا لخلعه.
ران الصمت وبلع النسوة ألسنتهن كأن على رؤوسهن الطير .
يومها نسيت الشمس لحظة المغيب و لبس الشفق ثوب الحداد .
يؤكد أكبر المعمرين أن تضاريس "الحاجّة" لم تتغير مذ كان يختبئ في ثنايا أمه.
سليطة ، عصية على الإحصاء، تفيض عنها القفة إن تكوّرت فيها .
"كالقطة بسبعة أرواح " فهل نجح ملك الموت في تثبيتها هذه المرة ؟
كوخها الطيني قلب القرية ، إليه تحج الدروب وحوله يطوف العشاق .
تحضنه الساحة فيرخي عليها جدائل حب و ظلالا من تين و زيتون .
في صحنه الأفراح تنصب ومن عرصاته يُزف الشهداء.
" ذاكرة قطباها ألم و أمل "
كانت تسند شجرة الزيتون من النهار إلى النهارحتى لتحار في التفريق بينهما .
قد تكون حرا في الذهاب إلى عملك أو البقاء في البيت ، لكنك مُجبر يوميا على نيل بركتها أو السؤال عنها "وذلك أضعف الإيمان ".
يمر بها الركبان ، يطرحون السلام ، وبإشارة ماهلة من عكازها تردّ التحية .
يقصدها أحدهم في حاجة غير ذات بال ، فتحدجه بنظرة ثاقبة فيدرك مرادها و يمضي .
ويسعى إليها طلاب الحكمة وعشاق العبر فتولد من جديد ،مشرقة القسمات وقد أفترت عن بسمة عذوب ، وهي تنبش كهوف الذاكرة بحثا عن جواب. تتزاحم الصور في مخيلتها وتنثال كلماتها متهدجة في حشرجة هي أقرب إلى السعال ، مشحونة بعبق الماضي وسحر الحاضر وأمل المستقبل .
يُكبّـلك أسلوبها في السرد ويُشعّـب تركيزك لكن" الدّبسة " تفعل فعلها لاعادة جلب اهتمامك .
أمران يثيران "ست الكل "ويخرجان لسانها من مكمنه :أن تنعتها "بالحاجّة" أو تحجب عنها شعاعا من شمس.
وحدث واحد يبعثها من مرقدها : تسقُّط أخبار المجاهدين
حيث تتحامل على عصاها في مشية ركوع طويل ، فيوقن من يراها أن مجاهدا قد عاد إلى بيته سالما أوأنّ شهيدا لحق بالرفيق الأعلى.
ينتظم خلفها المستقصون و كالقائد العام تُشقّ لها الحشود ويفسح لها في المجالس و ينطفئ الهمس ترقبا لما سيصدر عنها .
فان كانت الصدور عامرة بالنصر جثا العائد أمامها لتغرز أناملها في شعره و دموع الفرح تنير وجنتيها.
وإذا ما شمّها المسك زغردت إيذانا بوداع الشهيد ، فينقلب المأتم إلى عرس حقيقي تُذبح فيه الخراف وتنصب حولها حلقات الدبكة ؛ تتهاطل من جرابها قذائف "الملبّس" على رؤوس الأطفال.
تتبارى البطون في الانتساب إليها ، و تتلاسن النسوة في اجتراح أبيات العتابا المنحولة والمسندة إلى"ست الكل"تمجيدا لفخذ أو زهوا بعائلة، و يغبطها الوجهاء إذ يكفي أن تزمّ جبينها وتطلق نظرة عتب مقرونة بكلمة " عيب " حتى ينكس السلاح و يتعانق الخصوم .
ويوم ثار النقع حول " المخترة " خرجت منتصبة القامة مرفوعة الهامة وذرت في العيون حفنة من تراب وصوتها يجلجل: " دققتم بنزاعكم هذا أول مسمار في نعشي " فانقلب القوم نادمين .
لم يحظ الثوار بأستر من حضنها للاحتماء ولا بأسلم من كوخها لرسم الخطط .
نقرات عكازها كانت كلمة السر ، يهب المجتمعون لدن سماعها إلى رحم القبو اختباء من عيون الاحتلال " فمن ذا يطرق باب الكوخ بعد الآن "
جنازة " ست الكل " تربعت صدر موسوعة جينيس للأرقام القياسية، يومها تناكب الآلاف جنبا إلى جنب من كوخها إلى المقبرة هازجين على وقع حدائها " زفّة الحاولّومة ".
تراقص النعش ؛ تململت الأكتاف تحته، وشقّت "ست الكل" أكفانها قائلة :
"عودوا أدراجكم، يشيخ الزيتون ، لكنه لا يموت "
1- عين ماهل قرية فلسطينية مجاهدة من قرى الجليل .