من حكايات عمتي
البخيل و عرائسه
حكاية للأطفال بقلم : نزار ب. الزين*
كان يا ما كان ... يا قديم الزمان ،
من أغنى التجار، كان ؛
و اسمه سلطان ،
و لكنه كان أعزبا نافرا من الزواج لما يتطلبه من تكاليف ؛
ثم ، استجابة لنصائح زملائه التجار المتكررة بضرورة الزواج لإنجاب
الذرية التي تحفظ له اسمه ثروته و تعزز مكانته ، قرر الزواج .
كانت صنعة قريبته أم مكي خاطبة ، استدعاها و كلفها بالبحث عن فتاة
مناسبة ، و كان من شروطه ، أن تكون الفتاة صغيرة السن لا تقل عن الرابعة
عشر و لا تزيد عن السادسة عشر ، و أن تكون من عائلة فقيرة ، و أن تقطع كل
صلة لها بأهلها و أقاربها و معارفها منذ صباحية الزفاف ، و أهم الشروط
كلها أن تكون قنوعة ! .
تزوج أول فتاة ، نهضت في الصباح لتحضر الفطور ، فلم تجد في المطبخ سوى
الخبز الجاف ، سألته : " و هل سنتاول الخبز الجاف للفطور يا سيدي* ؟ "
فأجابها عابسا : " هذا هو الموجود ! " أجابته باكية : " سئمت أكل الخبز
الجاف في دار أبي ، و رجوت أن آكل الجبن و الزبدة في دار زوجي ! "
فاستشاط غضبا و هو يقول لها : << أنت لست قنوعة .. و لا تستحقين غير
البالوعة >> ؛ ثم جرها من يدها ، ثم أنزلها قسرا إلى قبو كان قد أنشأه
تحت أرضية ساحة الدار كمستودع ،
ثم جر السلم الخشبي الذي أنزلها عليه ،
ثم أسنده إلى الجدار ،
ثم أغلق باب القبو غير آبه بصيحات استغاثتها .
بعد عدة أيام ، استدعى قريبته الخاطبة و كلفها بالبحث عن فتاة أخرى ،
فقد لاذت الأولى بالفرار ، كما زعم لها !
كانت العروس الجديدة أجمل من سابقتها ، نهضت في الصباح الباكر لتحضر
طعام الفطور فلم تجد سوى الخبز الجاف ، سألته : " و هل سنتاول الخبز
الجاف للفطور يا سيدي ؟ " فأجابها عابسا : " هذا الحاضر ! " أجابته
باكية : " سئمت أكل الخبز الجاف في دار أبي ، و رجوت أن آكل البيض
المقلي و اللبن المصفى و مربى المشمش في دار زوجي " فأجابها غاضبا و
قد قطب جبينه : << أنت لست قنوعة .. و لا تستحقين غير البالوعة >> ؛
ثم جرها من يدها ،
ثم أنزلها قسرا إلى القبو إياه ،
ثم جر السلم الخشبي و أسنده إلى الجدار ،
ثم أغلق باب القبو غير آبه بصيحاتها و صيحات رفيقتها .
و تكررت المأساة ، و بدأت الألسن تلوك حول سلطان و زيجاته المتكررة ، و
لكن نظرا لغناه الفاحش و نفوذه العريض ، لم يتجرأ أحد على سؤاله حول
ما يجري .
*****
استبد الفضول بعائشة ذات السادسة عشر ربيعا ، و التي كانت أجمل الجميلات
( تقول للقمر غيب ، لأقعد محلك قاضي و مفتي و نقيب ) و التي تقطن في
البيت المجاور .
جذبها الغموض الذي يلف دار التاجر سلطان ، و لفتت انتباهها الأصوات
الغريبة التي كانت تصدر من ساحة داره ، و اصغت بانتباه شديد إلى تقولات
الناس ، بما فيهم زوجة أبيها و قريباتها ، حول سلطان و عرائسه ؛ فقررت
أمرا .
كانت زوجة أبيها تعاملها و أختها عاتكة معاملة سيئة ، و تميز أطفالها
الصغار عليهما في كل شيء بما في ذلك المأكل و الملبس ، و تجبرهما على
القيام بجميع الأعمال المنزلية ، مما آلم الشقيقتين و قارب بينهنا حد
الإلتصاق .
من فتحة في جدار سطح بيتها ، أخذت تراقب و شقيقتها ما يجري ، تغتنم
انشغال زوجة أبيها أو خروجها الكثير ، فتتسللان إلى السطح ، لتبدءا
المراقبة معا.
شاهدتاه مرارا ، و هو يصعد على السلم ، نحو غرفة عالية مستقلة من داره ،
بنى طوبا مكان بابها و نوافذها ، و لم يبقِ منها سوى كوة صغيرة في أعلى
الغرفة ، كان يرمي من خلالها إلى الداخل شيئا ما ، لم تتمكنا من
تمييزه .
كما شاهدتاه أكثر من مرة و هو يجر عرائسه الجديدات إلى القبو ، فتسمعان
عويلهن و قد اعتصرهما الألم .
كما شاهدتاه مرارا و هو يفتح باب القبو و عن طريق حبل يدليه ، يقدم لهن
كسرات الخبز و ضروف* الماء .
كما شاهدتا قريبته الخاطبة و التي كان يناديها أم مكي ، و هي تتناول
منه دريهمات مقابل خدماتها ، فحفظت أوصافها .
قالت عائشة لأختها عاتكة :
- هل تحفظين السر إذا بحت لك بِنيَّتي ؟
أجابتها شقيقتها :
- سرك في بير يا أختي !
فردَّت جادة :
- سأسعى للزواج من جارانا سلطان ، و سأخلص تلك الفتيات من سجنهن الرهيب .
قالت الفتاة الصغيرة ، جزعة :
- ألا تخافين أن يكون مصيرك كمصير تلك العرائس ؟
ردت عائشة مبتسمة :
- لا تخافي على أختك ، فأنت تعلمين جيدا أن أختك ذكية ، و ثقي أنني
سأعرف كيف أنهي هذه المهزلة ، و ستكونين ساعدي الأيمن .
أجابتها و قد ارتعش فمها :
- تريدينني أن أذهب معك إلى بيت هذا الوحش ؟
ابتسمت ، و هي تجيبها :
- بل سنبقى على إتصال من خلال فتحة جدار السطح .
أضافت عاتكة باكية :
- و تتركينني لزوجة أبيك تستبد بي كيفما تشاء ؟
عانقتها عائشة و هي تهمس بأذنها :
- أبدا ، لن أتخلَ عنك ، يا أختاه .
*****
ثم بدأت عائشة تراقب الدرب المجاور لغرفة الضيوف من خص* إحدى نوافذها ،
حتى إذا شاهدت الخاطبة أم مكي خارجة من بيت سلطان نادتها : " يا
خالة .. يا خالة ، تعالي هنا أرجوك ، فلدي ما أقوله لك " و عندما
اقتربت منها ، أضافت : " يا خالة هل تحفظين سري إذا حدثتك به ؟ "
أجابتها مستغربة : " سرك في بير يا بنية " أضافت عائشة : " علمت أن
جارنا سلطان يبحث عن عروس ، و أنه لم يوفق ببنت الحلال حتى الآن " نظرت
الخاطبة إلى وجهها الصبوح مشدوهة و قبل أن تجيبها ، استأنفت الفتاة
حديثها الجريء : " و قد بلغت السادسة عشر ، و كلما تقدم أحد لخطبتي
تصرفه زوجة أبي الظالمة بحجة أنني لا زلت صغيرة ، حتى أصبحت أخشى
العنوسة يا خالة ! " ثم أجهشت بالبكاء .
استمرت الخاطبة أم مكي متسمرة في مكانها مستغربة ما تبوح به الفتاة
الشابة ، و لكنها أشارت إليها أن تستمر ، فأضافت عائشة : " علمت أنك
خاطبة يا خالة و أنك تبحثين عن عروس لجارنا سلطان ، أرجوك يا خالة
إخطبيني له ! "
*****
رفض والدها الإسكافي* في البداية ، رغم فقره الشديد ، لما سمعه من أقاويل
حول جاره التجار سلطان ، و لكن زوجته ضغطت عليه بينما لم تبدِ عائشة
اعتراضا ، فوافق .
و تم الزواج .....
و في صباحية زفافها ، نهضت عائشة ، فتوجهت إلى المطبخ ، ثم عادت و معها
طبقان ، قدمت الأول لعريسها و وضعت الآخر أمامها ، قائلة : " تفضل يا سيدي
بالهناء و الشفاء "
كان الطبق مليئا بالخبز الجاف مغموسا بالماء الفاتر .
ابتسم لها سلطان و هو يتناول منه ، ثم نهض فنهضت معه تعاونه في ارتداء
ملابسه ثم ودعته حتى الباب ، حيث نقدها أربعة دراهم و هو يقول لها : "
دبري لنفسك بها طعامك للغداء لأنني سوف أتغدى بالمتجر ، أما عشاؤنا
فسيكون مثل فطورنا " ثم انصرف .
ما أن تأكدت أنه ابتعد ، حتى نصبت السلم على جدار العلية* محكمة الإغلاق ،
و التي طالما أثارت فضولها ، ثم صعدت نحو الكوة ، مدت رأسها ، نظرت
منها إلى الداخل ، و لدهشتها الشديدة ، كانت الغرفة مليئة بالذهب
الرنان حتى ربعها تقريبا .
أحضرت عصا المعسفة* الطويلة ، ربطت برأسها قطعة قماش ، غمستها بطين
استخرجته من أحد الأحواض المهملة بدون زرع ، ثم صعدت ثانية على السلم و
مدت العصا ثم أخرجتها و قد التصق بها عدد كبير من الدنانير الذهبية .
أسرعت إلى السطح ، كانت كانت عاتكة في انتظارها ، كما اتفقتا .
أعطتها دينارين ذهبا و قالت لها :
- بعد خروج زوجة أبيك ، ارتدي ملابسك و اذهبي إلى السوق ، و اشتري
عباءة و طعاما كثيرا ، و عودي بأسرع ما يمكنك .
عادت عاتكة ، نادت شقيقتها ، صعدت عائشة إلى السطح ، تناولت ما أوصت به
، ثم هبطت أدراجها نحو القبو .
و ما أن فتحته ، حتى علا الصياح و امتدت الأيدي ؛ قالت لهن مهدئة :
- سأعمل على خلاصكن جميعا ، و لكن واحدة في أعقاب واحدة ، أطيعوني و سوف
تكتب لكن النجاة بإذن الله .
ثم دلّت لهن الحبل محملا بأطايب الطعام مما لم يذقنه منذ مدة طويلة ..
و إذ انتهين من تناوله ، طلبت من أقدمهن أسْرًا ، أن تصعد نحوها مستخدمة
الحبل ، و لم تستعمل السلم الخشبي ، خشية أن تسول للباقيات نفوسهن
بانتهاك العهد و الصعود عليه عنوة ، و بمساعدة الأخريات تمكنت من جرها
حتى بلغت وجه الأرض .
ألبستها العباءة و منحتها صرة مليئة بالليرات الذهبية ، و أمرتها
بمغادرة البيت بأسرع ما يمكن باتجاه بيت أهلها ، و أخذت عليها عهدا بأن
تظل كاتمة للسر .
عندما عاد سلطان مساءَ ، و بعد أن تناول معها طعام العشاء ، قام فصلى
ركعتين على نية إنجاب غلام ذكر .
كان – بعدئذ - في غاية السعادة ، فقد وُفِّق أخيرا بزواجه ، و في غمرة
سعادته ، أمرها أن تحضر بعض كسرات من الخبز و ضرفا مليئا بالماء ، اما
هو فقد أشعل الفانوس* ثم أمسك عائشة من يدها و توجه بها نحو القبو ، و
هو يشرح لها الأمر :
- تزوجت قبلك عدة فتيات ، فكن جميعا جشعات ، ينوين خراب بيتي ، فلم
أمكنهن من ذلك ، و لكنني لم أطردهن ، خشية أن يسئن إلى سمعتي ، فسجنتهن
في هذا القبو جزاء طمعهن ، و لكي لا أكون سببا في موتهن فأحمل ذنبهن على
عاتقي ، فإني أرمي لهن الطعام و الشراب كل يوم .
قالت له عائشة :
- يا لك من رجل شهم !
بينما كانت تهمس في سرها :
- يا لك من متوحش بلا قلب !
كانت تتظاهر بالثبات ، بينما كاد قلبها ينخلع من مكانه هلعا ، خشية أن
يكون قد كشف ما فعلته في الصباح ، أو أن يجرها إلى القبو مع الأخريات ؛ و
لكنه لم يفعل ، فقط كلفها أن تقوم بمهمة إطعامهن ، فأجابته و قد
اطمأنت :
- سمعا و طاعة يا سيدي .
*****
كُنَّ سبعا ، استمرت عائشة تخرج كل يوم واحدة منهن ، تلبسها العباءة و
تمنحها صرة مليئة بالدنانير الذهبية ، و تصرفها إلى أهلها .
و بعد أن صرفت آخر واحدة منهن ، قالت لزوجها سلطان :
- يا سيدي ؛ حصل اليوم أمر عجيب ، أكاد لا أصدقه ، ذهبت إلى القبو ، فتحت
بابه ، أريد أن القي بالطعام و الشراب لسجيناتك ، و لكنني لم أجد أحدا
فيه !.
غضب سلطان ، و هب واقفا ، ثم هُرع نحو القبو و هي من ورائه ، فتح الباب ،
دلى الفنوس ، فلم يرَ أيا منهن :
قالت له مضللة :
ربما اختطفهن إخواننا الجن ،شقوا الأرض و ابتلعوهن !.
أو ربما تمكنَّ من حفر نفق و الهروب من خلاله !.
غَلَت مراجل غضبه ،
و استبد به الفضول ، فحمل السلم على عجل ،
ثم دلاه في عمق القبو ،
ثم هبط درجاته بسرعة ...
ثم ما أن بلغ أرضية القبو ، و ابتعد قليلا ، حتى قامت عائشة بسحب السلم
، بخفة و رشاقة ، ثم أغلقت باب القبو بإحكام ، و ابتعدت و هي لا تزال
تسمع سبابه و شتائمه .
( و توتة توتة ، خَلْصَت الحدوتة )
----------------------------------------
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب
عضو إتحاد كتاب الأنترنيت العرب
البريد : nizarzain@adelphia.net
الموقع : www.FreeArabi.com
------------------------------------------
*الضرف : جلد ماعز ، كانوا يخيطونه على شكل جراب و يستخدمونه لأغراض
مختلفة .
* سيدي : كانت الزوجات حتى أقل من مائة عام ينادين أزواجهن : سيدي
*خص : شبك من الخشب الرفيع تتمكن النساء من رؤية ما في الخارج دون أن
يستطيع أحد أن يميزهن .
* الإسكافي : مصلح الأحذية
*العلية : غرفة إضافية عالية
*المعسفة : عصا طويلة في راسها مكنسة ، تستخدم لتنظيف السقف و الأفاريز
العالية
*الفانوس : أحد أنواع القناديل