هذه المقالة الثانية لاستاذ مادة التاريخ في كلية الاداب \ جامعة الموصل
أرجوا الادلاء برأيكم ...
هل أن السياسات الغربية علمانية ؟!
د.موفق سالم نوري
1. ثمة تغطية فكرية وإعلامية واسعة النطاق روجت لمصطلح العلمانية حتى كاد هذا المصطلح ان يصبح المفتاح السحري الذي بوسعه أن يفتح كل الأبواب التي أوصدت على الخير والتقدم في بلادنا لإيصال رسالة إلى الشعوب والحركات والحكومات مفادها أن الدين يكمن وراء كل ما نحن عليه من سوء ، ولعل العديد من الكتاب أفصح عن هذه المعاني في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي الى الحد الذي نجح فيه اليسار العلماني من تولي السلطة في معظم البلاد الإسلامية ، وترافق مع ذلك قمع التيار الاسلامي لتغدو العلمانية حقيقة فكرية و سياسية فرضت نفسها على مدى عقود عديدة . وعند مراجعة قائمة الحساب مع اليسار العلماني ومسائلته عن عودة البراقة نجد أن حساب البيدر لا يكاد يجمع شيئا ذا قيمة ، وان كل ما نشهده من (مظاهر نهضة ) في واقعنا ليس اكثر من إهداء باهتة لما حققته الحضارة الغربية في مختلف معطياتها . اما الإبداع الذاتي المنبعث من داخل الأمة فلا نكاد نلمس له أثرا لذا لا يسعنا الا ان نقول ان (دفع العلمانية) نجح في أن يجرد الأمة من عامل النهضة الحقيقي المتمثل بالإسلام الحقيقي.
2. وأزاء ذلك لابد من التعرف على حقيقة هل ان السياسات الغربية هي سياسات علمانية ؟ لقد نجح الغرب في تمرير فكرة كونه علماني في نظمه ولأن ذلك اقترن مع ما تحقق من قفزات هائلة في مجال المعطيات المادية للحضارة الغربية ، لذا أصبح ثمة داعم قوي للدعوة الغربية في بلادنا إلا ان تفكيك بمعنى مظاهر الحياة السياسية والاجتماعية في الغرب يتبين ان الغرب ليس بالعلمانية التي تتصورها ،وان لم يقفز من فوق معطياته الدينية ، لا بل ان الأصوليات المتشددة هي التي تحكم مفاصل مهمة في الحياة الغربية. فالإدارة الأمريكية مثلا تنطلق في سياستها الخارجية تجاه الشرق الأوسط من النصوص التواراتية والإنجيلية حتى وصفت هذه الإدارة بأنها بروتستانتية متصهينة ، ووصف ساستها بأنهم إنجيليون ، وان القوانين التي ترحم التجديف الديني في بريطانيا توفر الحماية فقط للنصرانيية دون سواها ، وبعض الدول الاسكندنافية تفرض على جميع تلاميذها دراسة النصرانية بما في ذلك غير النصارى منهم ، وان دولة إسرائيل الواقعة في دائرة الحضارة الغربية انبعثت من أفكار دينية محضة ، وان اليمين المتطرف فيها وحتى اليسار تحكمه المقولات التوراتية الم يقل بوش الابن انه إنما يخوض حروبه ضد العراق وأفغانستان باسم الرب وهو في ذلك لا يعمد الى صناعة قناعات للرأي العام بل هو في ميدان التعبير عن حقيقة التوجهات التي تحكمه.
3. أما على مستوى نظم الحياة فلان النصرانية لم تضمن تشريعا ينظم الحياة كما هو الحال في الإسلام لذا فان بلدان الغرب راحت تضع لنفسها نظما من التداع الشرعي والقانونين في حين جاء ديننا غني بالتشريعات الكفيلة بتنظيم الحياة على وفق معطيات شرعية سليمة.
4. ولقد ذهبت الدعوة العلمانية إلى مديات ابعد فقد ، كانت العلمانية تعني فصل الدين عن السياسة. أما اليوم فإنها تعني فصل الدين عن الحياة ويحاول البعض ويسعى للنيل من قوانين الأحوال الشخصية لتغييرها على وفق معطيات الحضارة الغربية لعلمنة مؤسسات الدولة والمجتمع كافة ، ليبقى الدين مجرد طقوس تؤدي في الجامع او البيت وحسب من دون أية معطيات حركية هادفة لتحقيق التغيير الشرعي الصحيح في بنية الدولة والمجتمع.
5. إن نظرية (صراع الحضارات) التي راحت تغلف الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي ما هي إلا موطن آخر لمعطيات لا علمانية السياسة الغربية ، وفي هذا الاطار تأتي سياسة محاربة الإرهاب لتكشف عن جه آخر للصراع ضد الإسلام فقد جعل الغرب من الإسلام عدوه الجديد ولابد من سوق المبررات والمسوغات التي تؤد لصراعه هذا ، فجاءت أطروحة صراع الحضارات ، والحضارات أديان ، فكل حضارة انعكاس لتفاعل الدين مع البيئة والمحيط والفاعلية الإنسانية في طريقة التعامل مع الآخرين، فأرادوا من صراع الحضارات ان يكون صراعا بين الأديان ولا سيما صراع الغرب مع الإسلام وهو ما تغلت من بين السنة مسؤوليهم بين الحين والأخر مثل إشارة بوش الابن الى ان حربه على العراق انما هي حرب صليبية معبرا عن جوهر ما يعتمل في داخله ، اما الاعتذارات اللاحقة فإنها لا تعدو عن كونها مجاملات دبلوماسية تجاه الأصدقاء وليس تجاه الدين.
6. وإذا ما أردنا أن نذهب إلى ابعد من ذلك فإننا نثير التساؤل الأتي : ما الدين! نقول أن الدين هو مجموعة الأفكار والمعتقدات والطقوس التي تمثل نظرة الإنسان إلى الحياة والكون والآخرة والإله ، فإذا كانت هذه النظرة مستمدة من الوحي ، كان هذا الدين دينا سماويا ، وإذا كانت هذه النظرة مستمدة من عقل الإنسان نفسه ، كان هذا الدين دينا وضعيا ، أي ان ما يضعه عقل الإنسان من تصورات وأفكار معزولا في ذلك عن الوحي إنما يضع دينا كشف لذا فان فكرة العلمانية والعقلانية هما في حقيقة الأمر دين وضعه الغرب لنفسه حتى ليمكن القول ان الغرب دفع لنفسه دينا شركيا جديدا يتعبد فيه إلى الرب الأول في الكنيسة وهو الله ، ثم يفعل وينظم حياته على وفق ما شرعه لهم الرب الثاني وهو العقل ، بل ان بمعنى ما وضعه العقل لهم من افكار مستمد وبقوة من الفلسفة الإغريقية التي هي فلسفة وثنية في الأصل وفي هذا الاطار فان الإلحاد او اللادينية هما في الواقع دين ، عليه فانه لا يمكن القول إن فلان ، او الفئة القلانية هي لا دينية بل انه لا يمكن قول ذلك على الإطلاق فالأمر هو فرق بين دين سماوي ودين وضعي.
7. ان هذا الدين الجديد ليس دينا سلميا ودودا بل له حروبه المقدسة هو الأخر، واذا كان شعاره في الماضي أرسالة الرجل الأبيض فإن حروبه اليوم جاءت تحت شعار نشر الديمقراطية ، وهو ما كثرت به رايس – وزيرة الخارجية الأمريكية – قبل أسابيع عندما صرحت بأنها لا تجد بأسا في استخدام القوة من اجل نشر الديمقراطية التي هي من حيثيات دينهم الجديد ومقولة صراعات الحضارات هي من بركات هذا الدين الجديد ، وهي بمثابة اعلان لحرب مقدسة جديدة على الإسلام على وجه التحديد ، وليست العولمة الا فرضا لهذا الدين على الآخرين من اجل تهجين أديان وتفاقات الآخرين وجعلها منسجمة مع دينهم الجديد هذا.
8. ان الدين الجديد في أوربا صنعت له أدوات واذرع تساعد في نشره أولا وتهجين الأخر ثانيا ومن اذرعه البنك الدولي سابقا ولحقت به اليوم منظمة التجارة الدولية في إطار فكرة (السوق الحرة) و( حرية التجارة) ، ومن هذه الأدوات الاقتصادية أيضا الشركات عابرة القارات ، ومن أدواته أيضا الأذرع العسكرية المتمثلة بحلف الناتو او قوات التحالف الدولية التي تشكل في كل حين كما فعل في أفغانستان والعراق ومحراب هذه القوة مجلس الأمن ، ومن اذرعه الفكرية السينما الأمريكية ثم لحقت به شبكة المعلوماتية وفكرة الحداثة المدعومة بقوة من جانب أجهزة المخابرات الغربية ولا سيما الأمريكية والإسرائيلية ومعها دعوات حوار الحضارات وحوار الأديان.
9. إن مواجهة هذا الصراع الشام ليحتاج منا إعادة نظر شاملة في المنهج والآليات التي تعين امتنا الإسلامية على مواجهة هذا التحدي الخطير الذي لم تشهد الأمة أشرس منه ولا اخط وحتى في زمن الحروب الصليبية التي استهدفت مكانا جغرافيا ، لكن الحروب الأمريكية الغربية المقدسة اليوم تستهدف تهجين هذه الأمة وإدخالها في دائرة الدين الغربي الجديد، وبالمناسبة فإن هذا الدين الجديد لا ينكر علينا قرآننا ولا صلواتنا ولا ذهابنا إلى جوامعنا لكننا في المقابل نقبل من الغرب كل نظم الحياة والأفكار والفلسفات التي (توحي) بها اليوم (عقولهم).