فذكرتُ ما مرَّ بي في البحر وكتبتُ تحته: أيُّها الرجل، أكثر الحمد لربّك، والاستغفار لذنبك،
فلو وقفتَ على محنة غيرك، لعلمت أنَّ الفضل بيدك. وانصرفتُ.
قال أبو محمد حمزة بن القاسم: قرأتُ على حائط بستان بالماطِرون هذه الأبيات:
أرقتُ بديْرِ الماطرون كأنَّني
لساري النجوم آخرَ الليلِ حارسُ
وأعْرَضَتِ الشِّعْرى العَبورُ كأنَّها
مُعلَّقُ قنديلٍ عليها الكنائسُ
ولاحَ سُهَيْلٌ عن يميني كأنَّه
شِهابٌ نحاهُ وِجْهَةَ الريحِ قابِسُ
وهي أبياتٌ قديمة تروى لأرطاة بن سُهيَّة.
ومما له أدنى تعلُّقٍ بهذا الكتاب ما حدَّثنا بعض أهل الأدب قال: مرَّ بعضُ الخلفاء في
طريقٍ، فرأى رجلاً، فدعاه للشرب عنده فأبى. فاقتضبه اقتضاباً فأدخله منزله ثم قال له:
أدخل ذلك البيت. فدخل. فإذا بنبيذٍ مُعَدٍّ، وريحان وآلة الشراب لا غير. وعلى الحائط
مكتوب:
اشربْ على الخيريِّ والريق
فنحن في بُعْدٍ من السُّوقِ
لا تذكرنَّ البيت في بيتنا
فإنَّما تنفخ في بوقِ
قال الرجل: فقلتُ في نفسي: هذا ماجنٌ خليع. ووقف مرتبكاً، ولم يأمن أن يسقيه على
الريق. فلمَّا نظر إليَّ مُتحيِّراً قال لي: مالك؟ ادفع الباب الآخر. فدفعتُه، فإذا مائدة عليها
من كلِّ فنٍّ من الطعام. فرجع إليَّ قلبي وسكنتُ. فقال لي: كيف رأيتَ؟ طرحتُك في
البحر، فلمَّا ظننتُكَ قد غرقتَ أخذت بيدك فإذا أنت على الساحل.
حدَّثني أبو الحسن ليلى قال: اجتزتُ في انحداري شيراز - وكان قصدها ليُغنِّي بحضرة
الملك عضُد الدولة - بموضع بين ايذج ورامهرمز، فيه مياه تجري، ورياضٌ حسنةٌ. فاتفق
رأيي ورأي من معي في الصحبة على المقام والشرب في ذلك الموضع. فنزلنا في قرية بالقرب
منه، وأكلنا شيئاً. واحتجبت السماءُ بالغمام، وبدأنا في الشرب، وكان صوتهم عليَّ في
ذلك اليوم:
أحبابَنا قد برَقَتْ منكم
سحابةٌ غرَّاءُ بالهجْرِ
ليس الذي يلمعُ من برقِها
عن عين من ينظر في سِتْرِ
- وكان يجيده، وقد سمعته مراراً - قال: فبينا نحن في حالنا إذ مرَّ بنا شابٌّ يمشي على
الطريق. فلمَّا بصُر بنا وبموضعنا وطيبه قال: سلامٌ عليكم بما صبرتم، فنعم عُقْبى الدار.
فرددنا عليه السلام. وسألَنا مجالستنا ففعل. وقال وهو يصعد إلى القلعة التي كنَّا عليها: يومُ
سرور بألف يوم. ثم جلس، واستدعى بما أكل، وسقيناه رطلاً. فلمَّا شربه تنفَّس وقال:
من أين سلَّطتم عليَّ بليَّا؟ قلنا: قد والله يا هذا دَلَلْتَ على عشيقٍ يقليك، وتذكّر حبيب
ناءٍ عنك. فقال: أي والله يا سادتي! أنا والله عاشقٌ لفتًى من أولاد الرؤساء بسوق
الأهواز. وكانت لي ضيعة وحالٌ استنفَدَتْها طلباتُه وإراداتُه وجذورُه ونفقاتُه. فلمَّا قلَّ ما
بيدي هربتُ قبل وقوفه على صورتي، خوفاً من ابتدائه بالإعراض، وانتقاصه إيَّايَ في
خطاب، أو تثريبه عليَّ في كتاب، وقبل معرفته بالإفلاس فيجري على عادة سفل الناس.
فقلنا: يا هذا! هَرَّفْتَ في قطع حبل حبيبك، وبدأت بما كان يجوزُ أن يكون الأمرُ فيه
بخلاف ما وقع لك. فلاحت عبرتُه، ثمَّ أخرج محبرةً من كمّه وقلماً وكتب على صخرةٍ
كانت تليه:
قد كنتُ حِلْفَ سرورٍ
بقرْبكُم وحبورِ
حتَّى تناقص مالي
واختلَّ باقي أموري
فسِرْتُ في الأرض خَوفاً
من هجرةٍ ونُفورِ
فإنْ أعِشْ فإليكم
يعود بي ميسوري
وإنْ أمُتْ قبل ذاكم
فالأمرُ للمقدورِ
ثم قام. فسألناه الجلوسَ ومساعدتنا إلى آخر النهار فأبى، ومضى على الطريق، وحدَه.
وكان آخر عهدنا به.
قال صاحب الكتاب: وكنتُ أيام مقامي بسوق الأهواز عاشرتُ جماعة من أهلها.
فدعاني صديقٌ لي إلى الشاذروان يوماً. فخرجتُ ومعنا غذاء وشراب وغير ذلك.
فشربنا في البستان المعروف بليلى بن موسى فياذه، ثم خرجنا وجلسنا على الشاذروان
فرأينا أحسن منظر وأملحه، فرأيت على حجر من حجارته مكتوباً:
لم أنسَ ليلتنا بشاذروان
والماءُ ينسابُ انسيابَ الجانِ
فكتبتُ تحته:
والبدرُ يُزهرُ في السماء كأنَّه
وجهُ الذي أهوى ولا يهواني
والكأسُ دائرةٌ بكفِّ مُقَرْطَقٍ
خنِثِ الكلامِ مفَتَّرِ الأجفان
لم أنسَ ليلتنا به يا ليتها
دامت فكانت مدَّتي وزماني
وحدَّثني أبو بكر محمد بن عمر قال: خرجتُ يوماً وقد عرضَ لي ضيقُ صدرٍ وتقسّمُ فكرٍ
إلى الموضع المعروف بالمالكية. فاجتزتُ بدير سمالو على نهر الفضل، فجلستُ في موضعٍ
تحت ظلّ شجرة في فناء الدار أترنَّم بأبيات، إذ مرَّ بي غلام أمرد كالقمر الطالع فقلتُ: يا
فتى وحدك في مثل هذا الموضع؟ فقال: ما بقلبي حملَني على ركوب الغَرَر، فبالله عليك إلاّ
ما عرَّفتني هل مضى بك قوم من الأتراك ومعهم مغنِّية على حمار، عليها كساء نارنجي؟
فقلتُ: نعم، هم في ذلك البستان، ولكن عرِّفْني تريد الدخول عليهم؟ فارتعَدَ رعدة عظيمة،
ولم يزل لونه يتغيَّر حتَّى سكن قليلاً. ولم أزلْ أسلِّيه وأشجّعه، وعلمتُ أنَّه يهوى المغنِّية،
وأنَّها قد تركته وخالفته وخرجتْ مع الأتراك. فلمَّا هدَّأ من زفرته وأفاق من غشيته قال:
لقد منَّ الله تعالى عليَّ بك، وإلاّ فقد كان ما بقلبي يحملني على دخول البستان وحصولي
تحت حالٍ قبيحة. ثم قام وسألني مساعدته والمشي معه إلى أن يصل إلى البلد. وتبيّن
موضع الخطأ فجزع جزعاً شديداً. فقمتُ معه وقوَّيتُ من نفسه وأخذتُ به في طريقٍ بين
البساتين حتَّى لا يراهُ من يمشي على الجادّة، فلمَّا قربنا من البلد أخذ خرقة فكتب على
حائط بستان اجتزنا به:
أين تلك العهودُ يا غدَّارة
والكلامُ الرقيقُ تحت المنارهْ
قد علمنا بأنَّه كان زوراً
واختلافاً ونَغْشةً وعِيارهْ
فاجْهدي الجهدَ كلَّه قد سلوْنا
عن هواكم ولو بشقّ المرارهْ
فقلت له: كأنَّك في الجامع عرفتها. فقال: أيْ والله، وظَنَنْتُها الكلبةَ تَفي، فاسْتحلفتُها تحت
منارة جامع الرصافة بأيْمانٍ لا تحملها الجبال، فحَلَفَتْ أنَّها لا تُواصلُ غيري، ولا تريدُ
سوايَ. فلمَّا عَرَفَتْ خروجي إلى زيارة المشهد بالطفوف اغتنمتْ غيبتي فيه ففعلَتْ ما
فَعَلَتْ. فلمَّا قدمتُ سألتُ عنها فخُبِّرتُ خبرها، فخرجْتُ على وجهي حتَّى لقيتَني
فَرَدَدْتني. أحسنَ الله جزاءك عنِّي، وتولَّى مكافأتك. وافترقنا بعد أن عرفتُ منزله وصارَ
لي صديقاً.
...............................
تم بعون الله