مــرايــا
تسلل الشيب إلى فوديه وهو على حاله يبحث وسط الحطام .. تقلب يداه بين الأنقاض تـفـتش عن شئ ما.. الدماء تغطيهما ولكن لا ألم .. لم يعد للألم وجود عنده منذ زمن.. مستمر هو في بحثه اللانهائي كلما استخرج قطعة رفعها وتأملها ثم سرعان ما يلقيها ليبحث عن أخرى 0
لم تكن تلك بدايته حين أدرك الأمر لأول مرة وإن كان لا يعرف متى كانت المرة الأولى على وجه التحديد .. كل ما يذكره أنه فجأة لم يعد يرى نفسه رغم أن الكل يراه .. كان يهم بحلاقة لحيته عندما شعر بضبابية المرآة .. لم يبال أرجع الأمر إلى ندى البكور وزفير التنفس .. أتم حلاقته معتمدا على حفظه لتضاريس وجهه ونسى الأمر . بعدها و في حانوت الحلاق كانت صدمته .. لم يشأ أن يلحظ ذهوله فأومأ برأسه موافقا على جودة الحلاقة وأسرع بالخروج .. أراد أن يتيقن من الأمر فتمهل أمام واجهات المحلات الزجاجية ينظر ويدقق حتى تأكد من حقيقة الأمر .. هل وهن بصره إلى هذا الحد ؟ ولكن إذا كان كذلك فكيف يرى أشياء كثيرة وبوضوح .. شئ واحد لا يراه لكنه أهم من أي شئ سواه .. و
اصطدمت يداه بشيء أملس فرفعه .. كان كرة من البللور .. ابتسم رغما عنه ونظر فيها فرأى خيالات كثيرة غير واضحة .. سمع صيحة فرح فالتفت خلفه .. عجبا لم يكن وحده كان حوله الكثيرون ممن كتب عليهم نفس المصير .. رأى أحدهم ممسكا بقطعة صغيرة ينظر فيها سعيدا وعلى الرغم من صغرها إلا أنه احتضنها باقتناع ومضى .. واصل ومن معه البحث وكل منهم في واد .. لا شئ مشترك بينهم إلا ومضات العيون ..
عند طبيب العيون كانت المفاجأة .. عيناه في خير حال .. زادت حيرته .. طفق يدور في كل الاتجاهات .. نصحه البعض بأن يجرب الأماكن الفخمة وما كانت تلك المشورة تعوزه فقد كان حلمه دائما أن يرى نفسه في تلك المكانة .. لم يترك مكانا إلا وارتاده .. طاف بكل ما هو ممكن بل وبغير الممكن .. كلت قدماه بحثا وراء أي مكان يمكن أن يرى به نفسه .. جرب كل المرايا الفخمة بلا جدوى .. قرر أن يجرب أي مرآة .. لم تفلح كل مرايا المدن الكبرى .. اتجه للضواحي ثم للقرى .. وأخيرا للخلاء .. سعى خلف الأنقاض والحطام لم يكن أمامه بديل .. المهم أن يرى نفسه . . ولو لمرة واحدة 0
[line]
جريدة عُمان 23 / 12 / 1995 ( سلطنة عُمان )
جريدة القبس 2 / 9 / 2004 ( الكويت )