زائر الحديقة
رتبت أشيائي وهممت بفنجان قهوة أحتسيه بشغف بعد أن عريت نافذتي من ستائرها،ووجدتني أنظر منها إلى الحديقة المجاورة لبيتي أتأمل أطفال يلعبون بمرح ،يحلقون في السماء تارة وينزلقون إلى الأرض أخرى.
على كرسي متهالك جلس ،شد انتباهي لأني أكاد أعرف معظم زوار هذه الحديقة على الأقل بالشكل ،أطفال الحارة ،رجل قارب الستين يمارس مع زوجته رياضة المشي كل صباح،وبعض نساء الحي جلسن يتبادلن الحديث وفناجين القهوة.
كان زائر الحديقة رجلا يقارب الأربعين وتنبعث من وجهه رائحة الألم،وتزاحمت بين عينه دروب التعب.
تركت فنجاني ووجدت نفسي أقترب منه والحياء يلجم اندفاعي لمعرفة مابه ،وأحسست منه برغبة للتحدث مع أي أحد عما أتى به ،صباح الخير.بادرني بها ,صباح الخير ياعم أهلا بك ،كأني أول مرة أراك هنا .قال:نعم قلت:كأنك تبحث عن شيء؟؟
حلق بعينيه يطالع نوافذ حارتنا الصغيرة التي أكاد أحصي أفرادها،ثم قلت له :انتظرني للحظة سأحضر قهوة وأعود لك.وبسرعة كنت أمامه أناوله فنجانه وأنتظر البدء بالحكاية .
بقلب مكسور وعينين غسلتهما الدموع قال:أبحث عن عصفورتي ضاعت منذ زمن ،أفتش عنها في كل مكان يضحك فيه الأطفال ,أسأل الأراجيح ،علها تكون مرت بها ،أشاح بوجهه يخفي دمعة تدحرجت ،وارتشف من القهوة ما يبتلع به غصة حرى .
كنت أتابع حديثه بلهفة وأحسسته يتوانى بذلك ظنا منه أني مللت أو لن تعنيني تلك الحكاية .
قال :تعرفت إلى شابة أثناء عملي في البريد واتفقت معها على الزواج ،وخلال مدة قصيرة أصبحت زوجتي ،ولأني لا أقرباء يذكرون لي كنت أنتظر خبر حملها بفارغ الصبر .تنهد بعمق وأخرج من جيبه علبة تبغ .أخرج سيجارة وأخذ يمص سمها كمن يحاول انقاذ ملدوغ ،ثم تابع يقول :جاءتنا بشرى وكانت فرحتي بها عظيمة ،و أخذت طلبات زوجتي تتوالد بعد ذلك دون قناعة بما لدينا ،وأنا أحاول أن أحقق لها جل ما تريد وكانت معظم طلباتها تنحصر في مبالغ معينة من المال لا أشياء أشتريها لها ،وفي الوقت نفسه كنت أفكر لماذا تريد المال ولم ألحظ أنها كانت تجلب لنفسها سوى بعض أدوات التجميل الرخيصة .
وفي أحد الأيام عدت من عملي استقبلتني طفلتي ذات الثلاث سنوات بثغر يقطر عسلا وضحكة كتغريد البلابل ،ظممتها لحضني بقوة وطوقت بذراعيها الغضين رقبتي ،قبلتها وأحسست بتعبي ينسل مغادرا جسدي ،ووجدت زوجتي تقف أمامي تسألني :ها جئت ؟-وهل ترين أني لم أجيء بعد .ضحكت ودخلت أبدل ملابسي مستعدا لغداء بعضه طعام ومعظمه بؤس ،وفكرت في نفسي ماذا عساها تريد اليوم ،وهل سأقدر على تأمين ماتطلبه ,وماذا عساي أن أرد عليها ،سأقول لها لاأملك ما تطلبين وافعلي ما شئت . لاسأسايرها هذه المرة أيضا لأجل عيون بشرى .وكم تحملت لأجل عيونها .كان المبلغ الذي طلبه مايعادل راتب عام كامل لي ودون طعام .
أذهلني ذلك وأفقدني القدرة على التحمل لأي كان وزاد من حدتي أني لم أقدر على معرفة سبب ماتريد ،ووجدتها أمامي تحمل حقيبها وتقول لي ستعرف مكاني حين تحضر ماطلبت منك .كانت نظرات بشرى تتنقل بيننا وكأنها تدرك ما يحصل دون القدرة على ابداء الرأي .
استوقفتها وقلت لها :عند خروجك من هنا ستكون النهاية فيما بيننا ،جاوبتني بضحكة ساخرة :يوم المنى ،وعصفت بالباب خلفها تاركة طفلتها كشيء لا يعنيها .أخذت طفلتي لحضني وابتلعت صرخة كادت تمزق أوداجي ،ومرت أيام عشر دون أن أعرف عنها شيء ،كنت أضع بشرى عند جارتي العجوز التي كانت تحن علي بنظراتها كل يوم بعد أن تسمع سمفونية زوجتي كل صباح وكأنها تعيش معنا .
ومنذ شهر عدت لأجد زوجتي قد أخذت بشرى من هناك بعد أن أفهمتها أني من طلبت ذلك ،تأجج بركان الغضب عندي ورحت أبحث عنهما في كل مكان يمكن أن تكونا فيه دون جدوى .الكل لا يعرف عنها شيئا حتى أختها الوحيدة قالت لي أنها لم ترها منذ زرتها وإياها في العيد الفائت .
أعود كل يوم إلى بيتي أفتش عن ضحكة منسة في زواياه ، وفي غرفتها أسأل لعبتها علها تكون حدثتها في غيابي فأعرف عنوانها يغالب أرقي لهفتي لغفوة تعينني على النهوض لعملي في الصباح ،أذهب متكاسلا وما أن أنهيه حتى أعود لأفتش من جديد ،وفي يوم العطلة كما ترين أفتش الحدائق ،وأسأل المارين عل أحدهم مر بضحكتها .
تأهب للرحيل قائلا:آسف قد أثقلت عليك ،سأذهب لأفتش في مكان آخر ، مشى متثاقلا وعيناه لا تكاد تفارقان المكان .
ثم عدت لغرفتي أفتح للقلم مذكرتي من جديد .