حوار
مع الأديب السوري
الأستاذ حسين الحموي
أجرى الحوار : نزار ب. الزين
الأستاذ حسين الحموي من طليعيي الشعر الحديث في سورية ، و من أبرز كتاب المقال ، و هو عضو بإتحاد الكتاب العرب في القطر السوري
س - << إن القصيدة الملتزمة بقضايا الجماهير و الوطن ، و المسرحية التي يجسد شموخها الواقع و ترسم ملامح المستقبل ، و الرواية التي تصور هموم المواطن و آماله و طموحاته ، و الكلمة المطبوعة أو المسموعة أو المرئية التي تنفجر من قلب المبدع لتصب في قلوب أبناء الشعب و تترجم تطلعاته و أمانيه ؛ هي النواة الأولية لترسيخ ثقافة جماهيرية تدفع بالمجتمع العربي نحو الأمام >>
هذه الكلمات و ردت في إحدى مقالاتك ، فهل أعتبرك من أتباع مدرسة الأدب الملتزم ؟ و ما هو موقفك من القائلين بأن الإلتزام يعوق حرية التعبير ؟ و أن توظيف الأدب يضيعه ؟
ج - لقد كاد السأم و اليأس يتسربان إلى نفسي ، بعد أن وجدت معظم قطاعات جماهيرنا الواسعة ، تدير ظهرها للثقافة و المثقفين ، ليس من قبيل الإعراض و الإزدراء ، و لكن بسبب الظروف المعيشية القاسية التي أصبحت تجتاح الساحة الأوسع في تفكير الإنسان المعاصر و تستحوذ على إهتمام الخاصة و العامة على حد سواء ، حتى لأكاد يراودني الشك أن رغيف الخبز و متطلبات الحياة اليومية ، ستكون هي الشغل الشاغل لإنساننا العربي ، و هي المصدات و الكوابح التي تحول دون إنتشار الكتاب و الدورية و الصحيفة بالشكل المناسب ؛ هذا مع إيماني المطلق أن الثقافة بشتى أجناسها و فروعها ، أمست في زماننا أكثر من حاجة كمالية ، و أكثر من مطلب ثانوي أو هامشي ، ذلك أن الثقافة التي أعنيها في كل ما كتب من شعر و نثر و في كل حوار أو لقاء ، هي الثقافة التي تحمل في جنباتها ، بذور التطور الإجتماعي و الوعي السياسي الكفيلين بخلق المناخ الصحيح لدفع عجلة المجتمع بإتجاه الأمام ، إقتصاديا و سياسيا .
من هنا تجيء إجابتي على سؤالك الأول حول القصيدة الملتزمة بقضايا الجماهير و الوطن ؛ فالمسرحية التي تجسد الواقع و ترسم ملامح المستقبل ، و الرواية التي تصور هموم المواطن و آماله و طموحاته ، و الكلمة المطبوعة أو المسموعة أو المرئية التي تنفجر من قلب المبدع لتصب في قلوب أبناء الشعب و تترجم تطلعاته و أمانيه ، تكون تلك الأجناس هي النواة الأولية لترسيخ ثقافة جماهيرية تدفع بالمجتمع العربي نحو الأمام . فهل يتحقق ذلك من العدم و الفراغ ؟ الجواب طبعا لا ، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، و الكلمة التي لا تكون ملتزمة بقضايا الجماهير و همومهم ، لا يمكن أن تؤثر في تلك القضايا و أصحابها لا من قريب و لا من بعيد ، ذلك لأنها لا تملك مقومات الإبداع من جهة ، أو مقومات الإلتزام من جهة أخرى ؛ و الذين يظنون أن الإلتزام يعوق حرية التعبير ، و يحد من قدرة الإبداع ؛ يغيب عن أذهانهم أن الذين يعايشون الواقع ، بكل همومه و إشكالاته و يتحسسون تلك الهموم و الإشكالات بروحهم و مشاعرهم ، هم الأقدر على التعبير ، و هم الأكثر قدرة على العطاء و الإبداع ؛ لأنهم يستمدون شحناتهم الإبداعية من الواقع الذي يعيشونه ، و يعانون آماله و آلامه بصدق . و بديهي أن ثمة فرقا كبيرا و بونا شاسعا بين الإلزام و الإلتزام .
س – في مقال آخر لك ، وردت الفقرة التالية : << و مما لا شك فيه أن الثقافة التي ننشدها لا يمكن ترسيخها عن طريق القسر ، و إنما عن طريق الدمقراطية ، حيث تطرح موضوعاتها الثقافية بكل جرأة و وضوح ، و حيث تخلق الأجواء الثقافية الضرورية لإستمرار هذه الموضوعات و تطورها ؛ و إن خلق الأجواء الرحبة الفسيحة للحوار الثقافي بقلب مفتوح و عقل متفهم ؛ أصبح ضرورة لا بد منها لإسقاط الثقافات الورائية . >>
في العبارات آنفة الذكر برز التالي :
1– تعريف لأدب الإلتزام بربطه بالثقافة التقدمية .
2– و أن الإلتزام لا يمكن ترسيخه عن طريق القسر .
3– و أن بديل القسر هو الدمقراطية .
هل لك أن تشرح للقارئ ماهو قصدك بالضبط ؟
ج – هي دعوة صريحة للمثقفين العرب لكي يتساموا عن الأمراض القبلية التي تغرس جذورها في واقعنا الثقافي العربي و التي أهمها مرض الثللية و مرض النزاعات الأيدولوجية ، و مرض النرجسية و الإدعاء و الغرور ، و أمراض أخرى كثيرة لا مجال لسردها الآن .
إنني أدعو جميع الأدباء و المثقفين في وطننا العربي الكبير إلى الحوار في شتى المجالات و الموضوعات بعيدا عن القرارات و الآراء المسبقة الجاهزة ، و أمر بديهي أن الحوار الذي أعنيه ، و الذي يعتمد على الوعي و الذهن المنفتح و لا يتشبث بالتوافه ، و لا يبني وجوده على نفي الآخر ، هذا الحوار الذي أعنيه هو بالتأكيد سيؤمن الحد الأدنى من التفاهم ، و يشكل قاسما مشتركا ، يلتقي حوله معظم المثقفين العرب إذا لم اقل كلهم .
و من خلال ذلك القاسم المشترك تتحدد البدايات و المنطلقات الثقافية العامة و الشاملة لثقافتنا العربية التي نحتاجها ، و تلائم المرحلة العصيبة التي تمر بها أمتنا ، و ما تتعرض له من إنهدامات و إنكسارات و غزو و ردة .
الثقافة التقدمية التي أعنيها ، هي الثقافة التي تمتد جذورها في صميم التاريخ و التراث و العمق الأصيل لوجودنا العربي ، و في الوقت نفسه تستمد نموها و حياتها من الحياة المعاصرة ، و بالمناسبة أنا ضد القسر مهما يكن شكله و مضمونه ، و إيماني بدمقراطية الثقافة ليس دعوة بيروقراطية و إنما فهم متقدم لقوانين التطور و الحياة التي لا يمكن أن تستمر و تتنامى بإتجاه الأفضل إلا من خلال الحوار الديمقراطي الواعي .
س – في فهرس أعضاء إتحاد الكتاب العرب في القطر العربي السوري ، ورد أنك من السلمية مولودا فيها عام 1943 ، كما ورد أنك خريج جامعة دمشق مجازا باللغة العربية و آدابها ، و أن لك ديوان شعر بعنوان ( أمطار لوجع العاشق ) و مسرحيات شعرية أهمها مسرحية ( المنسية ) و ديوان جديد بعنوان ( قابيل ) ، هل لك أن تزيدنا تعرفا بك ؟ الأزاهير الأولى من أدبك ، مشاريعك المستقبلية ، و ضعك الإجتماعي ، هواياتك .
ج – أنا حسين الحموي الطفل المدلل في بداية حياتي الأولى ، لأني أنحدر من أسرة متوسطة الحال ، تملك عددا من البيارات و العقارات ، و لكن بسبب وقوع عدة مشكلات عائلية ، و بسبب دفع جميع أفراد الأسرة بإتجاه التعليم - و كان التعليم مكلفا في ذلك الوقت – فقد تقلصت الثروة و عاشت الأسرة حالة من الضيق ، مما أدى إلى تشريد بعض الأبناء خارج سورية و مما حتم عليَّ إشغال ذلك الحيز الذي خلفه أخوي و تحمل مسؤولياتهما في البيت و الأرض ، و كنت عندئذ لا أزال يافعا ؛ فنمت عندي إرادة الرجال و مسؤولية الرجال و أنا في سن مبكرة ؛ و وجدت في الوقت ذاته مكتبة ضخمة في المنزل خلفها لي والدي بعد رحيلهما ، حوت على أمهات الكتب و الدوايين الشعرية و التي قرأت منها المتنبي و البحتري و جرير و ابن الفارض و حسان بن ثابت و غيرهم .
ثم غارت المياه في بلدتنا الصغيرة ، فهاجر قسم من سكانها إلى الجزيرة ، و مما اضطرني إلى العمل صيفا من أجل تأمين إحتياجاتي و إخوتي الأصغر المدرسية ؛ ثم اختصرت الطريق فدرست التأهيل التربوي للمرحلة الإبتدائية ، أصبحت بعد تخرجي منها معلما ؛ غير أنني لم أنقطع عن المطالعة و الدراسة ، فتابعت تحصيلي في جامعة دمشق ، قسم اللغة العربية ، و نلت الإجازة منها أثناء تأديتي لخدمة العلم ، و في الوقت ذاته كنت أشارك في معظم الفعاليات و الأنشطة الثقافية .
ففي عام 1972 شاركت في أول نص مسرحي ضمن عروض مهرجان الهواة و فاز النص بجائزة تقديرية .
و في عام 1973 شاركت في مهرجان الشعر الجامعي و حصلت على الجائزة الثانية .
و في عام 1974 شاركت في المهرجان المسرحي الجامعي الرابع ، بمسرحية ( منسية ) ، و نلت أيضا جائزة تقديرية .
و في عام 1975 استلمت سكرتارية التحرير بمجلة ( جيل الثورة ) ثم رئيسا لتحريرها حتى عام 1978 حيث انتقلت إلى جريدة البعث لأعمل رئيسا للقسم الثقافي فيها .
أما عن مطبوعاتي فهي :
1 - ( أمطار لوجه العاشق ) – ديوان شعر
2 – ( منسية ) - مسرحية
3 – قابيل و سفر البحر – ديوان شعر
هذا و لدي عدة مخطوطات أخرى في إنتظار رؤية النور .
س - << فلسطين حاضرة لن تغيب و في وطني غرسة من نخيل أو جزع زيتونة شامخة ، و مهما حاول أقزام صهيون نزع آثارها من عيون الأجيال لن يستطيعوا ، فهي محفورة على جدار الذاكرة العربية ، جرحا دائم النزف و غابة من جسوم الضحايا ..
هي حاضرة في كل عين و قلب ،
موجودة في النسغ ،
و داخلة في تركيب الدم و تشكيل الخلية ،
و لكي يتم نزعها من تلك العيون و القلوب ،
تحتاج الصهيونية العنصرية و من يؤازرها ،
إلى تدمير الشعب العربي بأكمله ...
نساء و رجالا و أطفالا ..
تراثا و حضارة و تاريخا ....
و هذا – فيما أظن – أمر عسير جدا ، بل ضرب من المستحيل ! >>
كانت تلك صورة نثرية بروح شعرية تجمل أدب المقال ، و تمنحه زخما جديدا بعد أن إنقرض أو كاد ؛ هل لك - يا أستاذ حسين – أن تحدثنا عن هذا النوع من الأدب و كيف استهواك ، بعد أن أفل نجمه ؟ ثم هلا حدثتنا عن شعرك ، فتصف لنا شيطانه ، كيف يعبث بوجدانك ، كيف يلهمك ، و متى يحلو له ذلك ؟ و هل تشعر أحيانا أنه يفرض وجوده عليك فرضا أم أنه رفيق بحالك ؟ و هل لك أن تروي لنا بعضا من شعرك ؟.
ج – المقالة فن أصيل ، و من حقنا أن نجوِّد هذا الفن و نؤصله لأجيالنا القادمة .
و المقال الأسبوعي الذي أكتبه ، يجعلني طيلة الأسبوع دائم البحث عن الفكرة التي سوف أخوض غمارها ، و هذا الفن من وجهة نظري أصبح إلى جانب القصة القصيرة من أهم الأجناس الأدبية بالنسبة للقارئ ؛ و ذلك لسببين ، الأول لأنه يكثف الأفكار و يوجزها في عصر السرعة ، عصر الرسالة الألكترونية و الشطيرة ( على الماشي ) ؛ أما السبب الثاني فلأنه أقرب تناولا إلى الجمهور .
أما بالنسبة لشيطان الشعر ، هذا المارد العجيب الذي أستغرب علاقتي معه ، فهو تارة يمتلكني إلى درجة أنني أصبح فيها عبدا له أءتمر بأمره و أخضع له ، فيحلق بي في عوالم و بلدان و قارات ، و أحيانا يلقي بي فوق كتف رابية ، و يتركني وحيدا منعزلا عن العالم ، حتى لأكاد أنسى أنني شاعر ؛ لكنني في جميع الأحوال ، أظل معه توءمان . و بيني و بينه نوع من التسامح ، ليغفر لي أحيانا إذا كنت جائرا عليه في بعض المواقف ، و أغفر له إذا هجرني لبعض الوقت .
أما القصيدة التي أكتبها ، فهي نزف من شرياني الأبهر ، و خلاصة نزوع اللاشعور إلى التعبير عن حالة من حالاتي التي أعيشها ، فتؤثر بي في الصميم ، و لا أتعمد كتابة القصيدة العمودية ، أو القصيدة النثرية أو قصيدة التفعيلة ، و إنما أدع ذلك لشيطان الشعر ذاته الذ يحدد لي هيكلها .
إن عذاباتي الشعرية ، أكثر من إستراحاتي ، لذلك تطغى هذه العذابات على مجمل قصائدي ؛ و على سبيل المثال لا الحصر :
منفي و أنا لي وطن و حبيبة
و يتيم و أنا لي أبوان
و سقيم و أنا أملك زندا لو يسمح لي أن أستعملها
لمسحت كل الأحزان
عن وجه الكرة الأرضية
و أنا من النوع الذي لا يحفظ شعره ، و أحيانا أقف باستغراب أمام من يلقي إحدى قصائدي أمامي و كأنها غريبة عني ، و إليك هذه من ديواني الجديد ( قابيل و سفر البحر ) :
زعموا
أن الكلام مضر و ما عاد يجدي
و أصروا
أن ألزم الصمت
ثم انبروا يطلقون السهام في ليل صمتي
يا إلهي
إنهم يطلبون موتي
كيف هذا السكوت
و الصمت موت
س – في حديث لك عن أدب النضال ، قلت في معرض تفنيدك لمرحلة ما بعد حرب تشرين ، الأدبية :
<< الرمز الشعري بدأ يدخل من بابه العريض إلى جميع الأنواع واضعا عشرات علامات الإستفهام ، حول مايجري على الساحة العربية من أحداث مرعبة >>
مشكلة الترميز في أنها تستعصي على الفهم لغير الخاصة ، فكيف ينمو أدب نضالي من وراء قناع خانق ؟
البعض يفضل أن يكون الرمز غلالة شفافة تكفل حدا أدنى للوقاية من المساءلة ، و البعض يرى الإنطلاق بلا أقنعة أو غلالات و إلا ما استحق أن نسميه ( أدب النضال ) ؛ فما هو موقفك من ذلك كله ؟
ج – أنا من أنصار تبسيط الشعر و الإكتفاء بشفافية لفظية دون الدخول في متاهات الرمزية المغرقة بالغموض و الطلاسم و الأحاجي ، التي يعتبرها بعضهم ميزة من ميزات الشعر الحديث ؛ لأني أتوجه بشعري إلى الجماهير ، و علي أن أقدم لها شعرا مفهوما ، أما الذين يرمزون ، فهم حتما خاضعون لظروف تجعلهم يختبئون في تعبيرهم وراء حجاب .
س – هل يمكن لك أن توجه كلمة لإخواننا العرب في كل مكان ؟
ج – أرجو أن تكون بين المثقفين العرب جسورا ثقافية متواصلة تحقق نوعا من الحوار المسؤول و نوعا من التوجه الثقافي المشترك ، بحيث تكون الثقافة الجماهيرية الملتزمة بقضايانا المصيرية ، هي المقدمة الطبيعية لوحدة التصور العربي و وحدة الفكر العربي ، و بالتالي وحدة الأمة العربية .