مجرد كابوس
طريق طويل ..محاط بالأشواك..يمر عبر مقبرة قديمة مرعبة..يجاور نهر هائج..مياهه سوداء وضفافه مكتظة بالذئاب..أصوات تتقاذف من كل صوب..بكاء طفولة مؤودة..صيحات أمومة مفجوعة..أنين أموات..دفنوا قبل أوانهم..وهناك وسط الطريق الطويل طفلة مفزوعة..يلفها ثوب ابيض،وجهها ناصع كبياض ثوبها..عيناها تحمل من الصفاء ما لانراه في سماء تموز..قد أنهكها التعب جراء ركض طويل..براءتها قد أسالت من حولها لعاب الذئاب التي تترقب بشغف تعثرها..سقوطها..لتنقض عليها..وتنهش بلحمها الطري..وهي تقاوم التعب..وتظل تركض..الخوف من المجهول الذي ينتظرها يحفزها على الاستمرارية..ولعاب الذئاب تمنعها من التفكير بالراحة..تركض..تلتفت..تتعثر.. تقع..تشخص ابصار الذئاب نحوها.. تعاند..تقف..تستمر..تدخل المقبرة..يفزعها أنين الأموات..تخر قواها..تتعثر بذيل ثوبها الابيض..تحاول ان تستعيد قواها..تقف..قدماها لاتحملانها..تقع أرضا..تعاند..تحاول..تبحث عن غصن..عن قبر..عن اله..دون جدوى..تنقض عليها الذئاب..ثوبها الابيض..يغير بياضه..وجهها يفقد بريقه..الاحمر يغطي حتى سمائها..وعلى انغام انينها..يخرج الاموات من القبور بوجوه سوداء مفجوعة..ولبشاعتها تفزع الذئاب..فتفر..تاركة وراءها ثوبا ممزقا احمرا..وعظام وجه كان ناصعا..واثار براءة كانت حية..يصيح الاموات..وعلى صياحها تستيقظ..! ياللسماء اي حلم كان هذا ..بل اي كابوس هذا الذي افزعني الى هذا الحد..؟ تتنهد..تتمتم كم أحب الاشياء المنتهية..وكم اكره التي لاتنتهي..وكأني به كابوس وانتهى.. وجهها كان مصفرا..والعرق كان ينصب من جبينها..رفعت يدها لتمسح العرق المنصب من جبينها..تنهدت مرة اخرى..اخذت قدح ماء فافرغته في جوفها..رفعت ببصرها..نظرت حولها..الظلام كان لم يزل يخيم على غرفتها..خرجت من فراشها..توجهت نحو الباب بخطى حذرة ؟
دخلت الصالون..تفرست صورة طفلتها التي فقدتها..دمعت عيناها وبكت..ارتمت على اريكة قديمة ..ثم مالبثت ان قطعت بكائها ووقفت تنظر الى الصورة..لماذا ابكي عليها..؟ ألم أقل باني لن ابكيها..؟ ألم اقل باني لن اسمح لنفسي بأن تتذكرها..؟ ألم تتركني هي..؟ انا لم اشأ يوما تركها ..لكنها تركتني دون ان تقول لي حتى السبب..! لن ابكيها..لن اشتاق اليها..لن..لن..لكن لماذا اذكر الشوق.. وما دخله فيما انا فيه..؟ أ أكون قد اشتقت اليها..؟ ما الذي أخرجني من فراشي..؟ اه انه الحلم..الكابوس.. الطفلة..الذئاب..بل شوقي..لا..انما أردت ان..! لاشيء ..لم اكن اريد شيئا..لم اكن اعلم شيئا..لم اكن اعلم ماذا اريد يوما..لااعلم ماذا أريد الآن.. ما الذي أريده..؟ هل يمكن ان اكون قد اردت شيئا..لذلك خرجت من فراشي..؟ لكن ماذا عساني اكون..؟ وماذا عساني أصير..؟ اية اسئلة لامجدية هذه..؟ وما شأنها بما انا فيه..؟ دعني منها..لكن لماذا خرجت من فراشي.. ؟ هل اريد شيئا..؟ لست اريد..بلا.. اريد ان اعود الى فراشي..تعود ادراجها..تدخل فراشها..تتأمل من حولها..تحاول ان تعيد بذاكرتها..إلى الوراء القريب..تتجمع في ذهنها صور..الطفلة التي افترستها الذئاب..المقبرة..الأموات..ال نهر..تتساءل يا ترى لماذا كان النهر اسودا..؟ ومن ماذا كانت الطفلة تركض..؟
يقطع تساؤلاتها صوت الرياح التي تهز أغصان الاشجار بجوار نافذتها..تهمس لعلي ارتاح الان قليلا فغدا امامي عمل طويل..ويتردد في لاوعيها هذه الكلمة الاخيرة اكثر من مرة..طويل..طويل..طويل..فتسأل ماالذي يجعل كل شيء طويلا هكذا..؟ اتراها الحياة تزين لنا الاشياء فتجعلنا نتشبث بها ولانريد تركها حتى يطول علينا كل شيء..؟ أم هي رغباتنا اللامنتهية تلاحقنا كلعنة فرعونية معبودة..؟ ام تراه الفراغ المغروس في اعماقنا قبل ان نعي وجودنا..يجعل كل ما حولنا طويلا.. حتى ننساه ردحا..ثم ما نلبث ان نعود ونملأ أعماقنا بأمانيه ثانية.. ..؟أم هو الشوق ..أم التوق الى النهاية..؟ ثم ما تلبث ان تقول دعني من كل هذا..احتاج ان ارتاح قليلا فأمامي غدا عمل طويل..طويل..طويل..!آه...عدت اليها من كلمة قاسية..وكأني لا استطيع ان اقاومها.. وكأنها ستظل ترافق ايامي..؟ وكأني اعلم سبب مرافقتها لي ولكني أتجاهل أمرها..؟ بل أخاف من ذكرها.. لكن الى متى سأظل اتهرب منها..؟ ألم ياتي الوقت لأواجهها ..لأنزع جذورها من اعماقي..؟
ويقطع حوارها هذا..صورة الطفلة التي تظل بين فترة وأخرى تنقض على لاوعيها..فتقف امامها حية بثوبها الابيض وعيناها الصافيتين كصفاء سماء تموز..تحاول ان تمد يدها اليها.. تبتسم لها.. تفزع هي..وكأنها شعرت بانها تريدها ان تلحق بها..أو ان ما يفسر وقوفها امامها بهذه الصورة هذه المرة هو ان رحلتها أوشكت على النهاية..!
تفزع..تبكي..تحاول كبت بكائها..لكنها لاتستطيع..يتعالى شيئا فشيئا صوت بكائها..تقترب الطفلة منها..تمد يدها لتمسح دموعها..تلامس وجهها..تشعر بان الدم قد غطى ثوبها..وفراشها..تحاول ان تبعدها..تهرب منها..تلتفت من حولها..ترى اشياء تتحرك على جدران غرفتها ..يزداد فزعها..تصرخ في اعماقها..يخرج صراخها من اعماقها..يزداد صراخها...تسمع طفلتها..تهرع اليها طفلتها..تناديها..تحاول ايقاظها.. تفتح عينيها..يقع بصرها على طفلتها امامها بثوبها الابيض..تحضنها..تقبلها..تبتس م لها..وفي ذاتها تهمس مجرد كابوس ..في حلم.
19 -5-2004