حدّقتُ بـهِ طويلاً، وانتابـني خوفٌ شديدٌ عليه، وهوَ ينشدُ شعرَه في ليلى باكياً يلعبُ بذرّاتِ الرّمال، حاولتُ جهدي أنْ أرُدَّ عنّي غزواتِ الدموع التي اجتاحتْ خدَّيَّ بِلا هوادة، ولكنني فشلتُ !
جلسَ قربي واجمـاً للحظاتٍ حتّى خلتُ بأنّهُ قدْ غابَ عنْ وعيِه، ومكثنا صامتيْنِ والقمرُ الجالسُ على عرشهِ، يحرسُ صمتَنا الذي تساقطَ بوحاً زلالاً، لمْ نفطِنْ لرحيلـهِ ولمْ ننتبِه لِطلوع ِالشمسِ مِنْ منزلها القريبِ، وبيديْها جرةُ النّور حتّى ابتدرَتْنا بالتحيةِ، وهي تتثاءبُ وكأنّها لم تذُقْ مثلَنا نوماً، وصعدتْ إلى مكانِ حراستِها تتراقصُ على أوتارِ قلبيْنا، راغبةً عنْ أن تكونَ لنا عذولاً .
ولمّا غنّـى بي الشوقُ ثمِلاً، واستجمعتُ قوايَ التي خارتْ منهكةً رثاءً لِحالِ العاشقِ المتيّم، ابتدرتُه بالسؤال :
- يا قيسُ، هلْ تعلمُ بأننّي وأحبّتي قطعنا هذه المسافاتِ الطوال، وتكبّدْنا عناءَها ومشقَّتَـها لدخولِ مضاربِ قبيلتنا، قبيلة بني عامرٍ والأملُ يحدونا في العثورِ عليكَ صدفةً والتحدث إليكَ ؟؟
لدَيّ الكثيرُ ممّا أودّ أن أبوحَ لكَ به، لكنّني أحبّ بادئَ ذي بدءٍ أنْ أسألكَ سؤالاً.. هلْ تتذّكُرُني ؟؟ هل تعرفُ مَنْ أكون أمْ أنَّ عشقَكَ لليلى قدْ اختزلَ ذاكرتَكَ وقلبَكَ وحياتَكَ ؟؟
انتفضَ قيس واقفاً، ينظرُ إلى الشمسِ التي كانتْ ترقبنا في صمتٍ، وكأنّها كانتْ تحرسُنا من العذّالِ أوْ من قاطعي البوح، فقالَ متنهّداً وهوَ يعبثُ بأطرافِ ثوبـه:
- أعلمُ مَن تكونين، أنتِ مِنْ قبيلتنا، من بني عامرٍ، فرَرْتِ يومَ أعلنتِ عشقَكِ العفيفَ شعْراً ونثْراً فأهدروا دمَكِ، ومنذُ ذلكَ الوقتِ وهمْ يبحثونَ عنكِ، بعثوا خلفَكِ الكثيرينَ من رجالِ القبيلةِ لإحضاركِ، بلْ وعقدوا مع كثيرٍ من القبائلِ المجاورة وحتّى التي تسكنُ أطرافَ الأرضِ، معاهداتِ صلحٍ وتجارةٍ شرطَ تسليمكِ لهمْ حالَ العثورِ عليكِ. وكنتُ وليلـى ندعو لكِ صباحَ مساء بالنجاةِ من مخالبِهمْ، لأنّنا شرِبنا الكأسَ التي شرِبتِ، لكنْ أخبريني أولاً؟ أينَ كنتِ طوالَ هذهِ السّنين ؟؟ ومَن الذي تكفّلَ بإخفائكِ وحمايتكِ من بطشِ القبيلةِ ورجالها؟؟ ولماذا عدتِ وكأنكِ تبحثينَ عنْ حتفكِ بظلفِكِ ؟
زلزلتْ كلماتُ قيسٍ جوانحي، وأسقطَتْ كلَّ أوراقِ شجرةِ السلوان التي كنتُ أجاهدُ للحفاظِ عليها مورقـةً، فأجبتُه والدموعُ تتناثرُ من عينيّ :
- آهٍ لوْ تعلم يا قيس كمْ عانيتُ ! وماذا قاسيتُ في رحلةِ الزمن التي سرَقَتْني منْ أحلامي ومن قبيلتي ومنْ عمري أيضا. لاأخفيكَ أنّني افتقدتُ قبيلتـنا وافتقدتُ أهلي هناك، وافتقدتُ رفقتَكَ ورفقةَ صديقةِ عمري ليلـى التي أحبّتكَ حبّاً خرافياً ..
لاأخفيكَ بأنّني شربتُ من كؤوسِ الحنينِ مراراً، وذقتُ الويلاتِ بسببِ بعدي عنْ مرتعِ صبايَ، مازلتُ أذكرُ البئرَ التي كنّا نسقي منها الماءَ ونتراشقُ بقطراتِه أنا وليلى وصويحباتنا، آهٍ ما أقسى الذكريات! حزَّ في نفسي تنكُّرُ شيخِ القبيلةِ ورجالها للحبّ الصادقِ العفيفِ، وإهدارَهمْ لعُمرَيْنِ حلّـقَا بينَ الغيمات.. تعذّبتُ كثيراً طيلةَ الشهورِ التي قضيتُها في الصحراءِ، ولولاَ أنّ رحمةَ ربّي كانتْ تحرسني لهلكتُ، أحلُّ ضيفةً على هذه القبيلةِ تارةً وعلى القبائلِ الأخرى تاراتٍ حتّى فتحَ لي ربّي بواباتِ رحمتِه على مصراعيْها، فهداني لقبيلـةٍ تحترمُ المعاني السامية، تحترمُ الحبَّ الصادقَ والمشاعرَ النبيلـةَ، تحترمُ إنسانيةَ الإنسان، تخدمُ لغةَ الضّاد وتحرسُ مضاربَها، تؤسّسُ لفكرٍ جديد وعهدٍ يصونُ كرامةَ الإنسانِ واللغة والأدب والعلم..
تعلمُ يا قيسُ ؟؟ واللـهِ ماذبلتْ جراحي وانزوتْ عليلةً تشكو آلامَها إلاّ وأنا بينهمْ، فعادَ الحنانُ من جديد ليسكنَ بقلعةِ قلبي وينشرَ أشعتَهُ النقية بين جوانحي، وتدفّقَ الغيثُ من جديد يسقي أرضَ قلبي الجافة، أرضَ قلبي التي وشَمَتْها الجراحُ منذُ ألفِ حزن، فازدهى بها الزهرُ والشجرُ والحرفُ والحبُّ مرةً أخرى، وصارَت القبيلةُ ومَنْ فيها أحبابي ورفقاءَ دربٍ وضعوا تاجَ النقاء على رأسِ قلوبهمْ، وزرعوا بأرواحهمْ مشاتلَ الأملِ والوفـاء والحنوّ على بعضهم البعض ..
وهنا قاطعني قيسُ والاستغرابُ بادٍ على تقاسيمه الذابلة :
- أينَ هذه القبيلةُ باللـهِ عليكِ !
- إنها قبيلةُ "رابطة الواحة الثقافية"، لم تضنَّ على أحد أبنائها بخيرٍ ولا بفيْءٍ أوْ بحنان، لمْ تتخلَّ يوماً عنْ مبادئها وأحلامها، وماتزالُ كما عهدتُها سامقةً تزرعُ حقولَ الغدِ الأجمـل، سِمادُها وأدواتُ زراعتها القلوبُ النقية الطيبة والهمّة العالية، شرابُها وطعامُها الوفاءُ والمحبّة والتسامح .
أتدري ياقيسُ بأنهمْ أبوْا إلاّ أنْ يرافقوني في رحلتي هاته بالرغمِ من وعورةِ المسالكِ وعناءِ السفر وشدةِ المخاطر، فقطْ لكيْ يعيدوا إليكَ وإلى ليلـى بسمتَكما، حلمَكـما الذي اغتالتْه قلوبٌ ثكلت الحبّ ؟؟؟ انتظِرْ ريثَما يستفيقُ أحبّتي من رقادهمْ، وسأعرّفُكَ إليهمْ واحداً واحداً، أمّا الآخرونَ فمازالوا في طريقهمْ إلينا..سافروا معي وزادُهمْ الشعرُ والنثرُ، وسَيفُهمْ السلامُ والعطاءُ والمحبّة، يلتحفـونَ الوفاءَ ويفترشونَـه، ويبذلونَ الغالي والنفيسَ من أجلِ مبادئهمْ، بهمْ ومعهمْ تحلو الحياةُ وتزدان ..قدْ سمعوا قلبَكَ يستنجدُ بشهامتهمْ ونقائهمْ فلبَّـوا النداء، ولنْ يعودوا عنْ نصرتكَ وليلى إلاّ إنْ نبتَ في بطنِ الراحـةِ الشَّعَـرُ..
وإنهمْ لَعَمْري لَناصرُوكَ وليلـى بإذن اللـه".
وفجأةً خـرّ قيس ساجداً للـه وقلبُـه مغرورقٌ بالامتنان :
الحمد للـه عددَ خلقِه ورضاءَ نفسِه وزنـةَ عرشِه ومدادَ كلماتـه .