.. أمواج .....أمواج
( خاطرة )
لا أظن أن طفلا أحب البحر مثلي ، وخبأه في بنورته السحرية مثلما فعلت يوم اكتشفت وشيشه ذات صبح بعيد .
أنا صعيدي الأصل ، وجد جدي من آخر قبلي ، والبشرة لاتخفي هوية ، ولا تضلل في نسب ، فمن أجدادي ورثت السمرة ، وطول البال ، وحب البحر!
نعم، أعرف أنكم ستتعجبون أن يأتي شخص من أحضان الجبل الأجرد حيث لا زرع ولا ضرع مثلي يحكي لكم عن حبه للبحر ، والقواقع ، والهدير الصاخب .
بالله عليكم لا تتسرعوا ، وتأملوا فقط ما سأذكره لكم عن الأمواج ؛ فهي سري الدفين ، وضميري اليقظ الذي لا يعرف المهادنة أو الخنوع .
الأمواج هي سري : ضعفي وقوتي ، يقيني وشكي ، كبريائي وذلي.
قتلت قبيلة عرب الهوارة أحد أعمامي ، وجاء الدور على أبي كي يثأر لشرف العائلة كلها ، وقبل أن يزيح الغبار عن بندقيته ، اصطحبنا أطفالا صغارا في بداية تفتح زهور العمر. جاء بنا صغارا إلى هذا المكان المطل على البحر ، أسكننا عشة من عشش الصيادين ، قربنا منه قبل السفر إلى الجنوب ، قال بصوت عال إرتج له البحر : أنتم أشداء كالجبل . إياكم وغواية البحر فهي مهلكة . هي سنوات وتعودون لأحضان الوادي حيث الأرض والعرض والدم.
قال هذه العبارات ، فنزلت على أعناقنا كالسيف الذي له حد باتر ، ومن يومها غاب ، وظل صوته يتردد في أذهاننا ، أما أمي التي أخفت وجهها بشال اسود فقد ربتت عليه مودعة : اعمل الواجب يا ابن العم . لا تضيع الدم.
آه من البحر . كان في مواجهتنا ينادينا أن ننزله ، وكانت أمي تحكم الرتاج ، وتسد النوافذ ، فكنا نوسع أعواد البوص ،ونهرب في خفاء ، فيستقبلنا فرحا . يأتي بنفسه ليغمر أقدامنا الصغيرة ، تاركا لنا صدفات عجيبة ، وسراطين صغيرة تتحرك بحذر هنا وهناك ، وأسماك بلطي صغيرة تتموج في الحفر التي نصنعها في المساء دون أن تدري أمنا .
قالت لنا وهي تشهق لتعب اليود في رئتيها ، وثلاثتنا من الصبيان : لا تذهبوا إليه ، ففيه جارية تخطف الشبان لتتزوج منهم ،وبعد أن تنال غرضها تغرقهم .هكذا قال أبوكم لكم .
كنت الصغير فيهم ، قلنا وأعيننا مصوبة نحو الشواطيء البعيدة التي لا نراها : سمعا وطاعة يا أماه . لا . لن نذهب إليه .
البحر له في الصباح نداء غامض لطيف ، وفي الليل عواء عاصف مخيف ، وكانت الأمواج تمثل لي عنفوان الحياة .
قلت لنفسي : الأمواج ترفعني وتهبط بي ، فهي تلاعبني.
قلت مرة أخرى ، وهي توشوشني في أذني : إنها تدللني .
ولما غفلت عيناي مرة غمرتني فاختنقت ، وصرخت ، وجاءت الجنية. يالله على منظرها الرائع ، حملتني برفق وهدهدتني : مااسمك؟
قلت بين اليقظة والمنام : عبد الله .
قالت : من أين جئت؟
قلت بصوت لاأثر للخوف فيه: من الصعيد.
انزلقت برفق على سطح الماء ، وهتفت بي : لم تزل صغيرا . سأحتاجك يوما . لاتنم مرة أخرى على رمال الشاطيء . ذيلها كان يتحرك بانسياب وهي تتهادى لتشق طريقها نحو عشتنا بالذات ، كيف عرفت أننا نسكن هنا ؟
اخترقت زجاج النافذة كأنها شعاع ضوء ، قبل أن تضعني برفق على سريري قرصتني من خدي حتى لا أظن أنني في حلم ، وقالت بصوت عال : لا تأتي إلا عندما أناديك.
صرخت والحنق يبلغ مداه: أنا لا أحبك يا جارية . وشعرك الناعم لا يعجبني مطلقا .
دخلت أمي ووضعت يدها على جبهتي ، مدت يدها بحبة أسبرين وكوب ماء : إشرب ، أنت تهلوس.
يا أمي أنا لا أهلوس ، ولا أخرف ، من قال لها أنني أخاف البحر ، الماء المالح لا يغرق طفلا ، هي تريد أن تدخل البيت من النافذة . لا تدعيها تخرج يا أمي .لابد لها من عقاب . كيف تتدخل في حياتي ؟
بتقطيبة كلها طيبة هزت رأسها : نم ، في الصباح لنا كلام.
الأمواج كم أرقتني ، وأنا أقف أمامها أترقب عودة الجارية بذيلها الياقوت ، وزعانفها اللؤلؤ ، وقشورها الفضية التي تلمع تحت الشمس . لم تعد تأتي .
وأتت نسرين. لتتأمل الأمواج نسرين.
للشمس أن تنخفض لتنعم برؤيتها وهي تتمشى على الشاطيء . كنا قد كبرنا وصار أبي ذكرى بعيدة ، لا نعرف هل هو حي أم ميت؟
نسينا تماما نصيحته بعدم الذهاب إليه ، إلى البحر ، لكنها أتت ، وجاءت معها بعاصفة صغيرة تخصني اقتلعت قلبي ، كنت في كلية الحقوق ، وهي تدرس الأدب الفرنسي ، وعلى شاطيء البحر امتزج القانون بروايات كامي وفلسفة سارتر ، عرفت أن الجارية إمرأة تغوي الرجل ، وبعد أن تنال غرضها تخنقه بحبل مفتول من الأكاذيب . هيء لي أنني قد نجوت بمعجزة .
هل رأى أحد منكم جارية تتحدث الفرنسية بطلاقة ، وفي يديها كل هذا البرق الذي يومض من الصباح حتى المساء .
ألتفت للأمواج وهي تطشطش ، وتصنع نافورة هائلة ، قلت لها : يا أمواج ، بالله عليك كيف أتوحد بنسرين ، وهي تأتي على شكلك لتغرق كل يقين داخلي؟
هي برعم من نار ، يتفتح كزهرة تعيش قي جهنم ، كلما امتد زمن اللقاء احترقت أكثر .
الأمواج لا تردني خائبا ، تضحك في وجهي : إخلع ملابسك ، إنك في الشاطيء المقدس للحب ، كلما تعريت للشمس والهواء شعرت بك الطبيعة أحبتك ، فلونتك ، وجملتك بطباعها .
يا أمواج : هذه نسرين تغيب وليس معي سوى علامات تصلح لأية فتاة أخرى ؛ فهي متقلبة مثلك ، لا قرار لها ، كيف يمكنني أن أتزوج بها .
حلمها هناك في شاطيء لازوردي بعيد بعد الأطلسي . هل يمكنك أن تسكن عشة أبي الصعيدي ، هذا الرجل الاسمر الذي ترك زوجة وثلاثة من الذكور ليأخذ ثارا من عائلة عرب الهوارة ؟ هل يمكنك يا أمواج؟
نحن لا نعيش الحياة إلا مرة واحدة ، ، وهائنذ قد تخرجت ، وعملت ، اختلطت بأرقى الطبقات ، وتعاملت مع أعتى المجرمين ، وفي كل مرة تصخب الأمواج داخلي ، وأراها تشير لي أن أخلع ملابس ، وأتعرى للبحر ، فاستسلم للإغواء ، وأسير كالمنوم حافي القدمين ، والرمال الملتهبة تلسعني ، فأعدو ، كي أطفيء نار تساؤلاتي : أين ذهبت يا أبي؟
يقولون أن الأم تعشش وتحتضن صغارها حتى يكبرون . لا أنكر أنها فعلت ، حمتنا وأكثر .
لكن الأب يمنح الأبناء القوة وشدة العود ، ويهبهم ثقة في النفس ، وقدرة على مواجهة المتاعب .
يا أمواجي إصعدي بي واهبطي ، فقد تعودتُ أن تهدهدينني سواء مع الجارية أو مع نسرين ، أو مع نجوى .
نجوى فتاتي الأخيرة التي كانت لي البحر بغموضه وعمقه وزخمه القوي المثير .
كنت قد اشتريت زورقا صغيرا له محرك قوي ورفاص ، كلما وجدت متسعا من الوقت ركبته ، وخضت اليم مندفعا فوق سطح الماء ، اشقه نصفين كأن بيدي عصا موسى ، وفجأة وجدتها نقطة ضوء في أقصى شاطيء النخيل.
كانت تسبح في هدوء على ظهرها مغمضة العينين كأنها تستدعي حلما بعيدا .
مددت يدي فأوقفت المحرك ، وخلعت سترتي ، ثم قفزت بين الأمواج ، رحت أعوم حتى صرت في مواجهتها ، لم تفتح عينيها ، لكنها عاجلتني بسؤال أطاح بتماسكي : بالتأكيد أنت شخص فضولي؟
ابتلعت الإهانة ، ورددت الصاع صاعين: وأنت منفلتة اللسان.
فتحت عينيها في امتعاض ، قالت: من فضلك ابتعد.
قلت : هو البحر ملك للناس كلها.
قالت متأففة: ولأنه واسع جدا فاختر مكانا آخر.
قلت : هذا المكان يروق لي.
اعتدلت وراحت تسبح نحو الشاطيء : سأترك لك البحر كله.
قبل أن تكمل عبارتها أرسلت يا أمواج رسلا من لدنك كادت تغرقها في دوامة عنيفة أفقدتها اتزانها .
غطست ،انتشلتها ، رأيتها مستسلمة لا تريد أن تقاوم.
صعدت بها على حافة الزورق، قالت لي وهي تستعيد ابتسامتها : شكرا لك . أنت غطاس ماهر.
كانت بجسدها الفائر الشهي تحرك أشياء داخلي لا أكاد أدركها ، قلت : ما اسمك؟
قالت : حذّر .. فزّر؟
قلت : الجارية؟
ضحكت بمرح صاخب: كي أخطفك وأتزوجك قسرا ثم أمزقك؟
لقد انتهى عهد الأساطير يا "هذا ".
صار اسمي " هذا " ، وأدرت المحرك من جديد وبدلا من أن أتجه للشاطيء رحت أبحر نحو العمق المستحيل . لمحت في عينيها السوداوين إصرارا غريبا ، نفس الوميض الذي يحاصرك بسطوعه . سألتها : ألا تشعرين بالفزع وأنت مع غريب.
حدجتني بنظرة واثقة : من يمتلك زوقا مثل هذا يمكنه امتلاك نساء جميلات كثيرات ، ولن تعدم وسيلة .
لم أدر يا أمواج ، أكانت تسخر مني أم تمدحني؟
لففت بها البحر مرات ، وهي تغني لي أغنية كنت سمعتها في أول مقدمي بالشاطيء . سألتها في حيرة : ما اسمك؟
قالت : نجوى . ودعني اسميك " هذا " . وقد جرجرتني إلى أعماق غموضها وهي تضحك ، وتقسم لي أنها تعيش الدنيا بلا هدف غير أن تفهم الاجابة على سؤال واحد وهو : لماذا هبطنا على الأرض؟
كانت ابنة مليونير ترى الجمال في عري الطبيعة وتقشف البشر ، عرفت من خلال حديثها أنها ستعيش ابد الدهر حرة. صرخت فيها : تدفنين كل هذا الجمال بلا زواج؟
قالت وهي تترنم بيت شعر : لا تشتري العبد إلا والعصا معه!
قلت : لكنك لست عبدة ، ولا جارية ، أنت حرة .
هزت رأسها : إنه رأيي يا " هذا " !
يا أمواج .. يا أمواج .. " هذا " كنت أنا .
أمد يدي ، لأساعدها على الهبوط من زورقي الذي غاصت مقدمته في الرمال الناعمة ، وحين صارت على الأرض نظرت لي بتقدير واحترام : أنا مترجمة عن الإيطالية . إبنة باشا مليونير . لأبي زوجة مصرية وأخرى من روما ، هي أمي .
قلت لها وكل أحزان الدنيا تسكن قلبي :
أنت يا نجوى إمرأة من روما؟!
ضحكت وهي تبتعد ، وتغمرني بكثير من شعاعها الغارب : لا تثق في ألبرتو مورافيا كثيرا.
يا أمواج .. يا أمواج .. كنت أواجه جنية أخرى أو جارية ، لكنها جاءتني هذه المرة على غير إرادة مني فاقتحمت حياتي . لأمي رحت وكنت جادا : سوف أخطب هذه الفتاة.
قالت وهي ترمقني بحسرة : ليت لك أب أو عم يأتي معك.
وإلى الصعيد ذهبت ، لأبحث عن أبي كي يكون سند لي . كيف لم أفكر في أن أذهب إلى هناك حتى الآن ؟ ما أصعب الحياة بدون أب . معي ورقة صغيرة باسم البلد وسكن العائلة . وحين طرقت الباب الخشبي القديم فتح لي شيخ ملتح له نظرة نافذة: من أنت؟
أنا " عبد الله " وجئت لأبحث عن أبي في هذا العنوان . قالوا أن عبد الموجود يقطن هذا البيت!
احتضنني مرة واحدة ثم أطلقني : أدخل يا بني . أنا أبوك، ولكن لن أرجع . بلغ أمك أنني هنا لو أرادت المجيء .
قلت وأنا أقيس تأثير كلامي على امتعاضات وجهه : كلنا نريدك ، وقد جئت لتخطب لي .
ضحك وهو يهدر كأمواج تأتي من عمق الظلام : لا شأن لي بدنياكم هناك . أنت ذهبت البحر ، وعصيت أمري .
الجنية أغوتك . عد وعش معنا . لي زوجة أخرى ، ولك أخوة .والمطرح واسع . دعك من البنات الطريات فهن سيغرقنك في اليم حتما .
قبل أن يأتي الشاي قمت مسلما ، قام و أغلق الباب خلفي ، وسمعته يسعل ، ويفتح النافذة ، ويتوعدني : لقد عصيتني ، وستغرق ، سيحملون جثتك وستدفن هنا في بطن الجبل ، لن تعد إلا جثة هامدة ، وحولك الندابات.
مع أمي ذهبت للباشا المليونير ، وقد استقبلنا في صالون فاخر ، أشعل السيجار ، وقال : الرأي لنجوى .جاءت أمها وغمزت لي أنني شاب وسيم مفتول العضلات وهذا شيء جميل .
قالت نجوى وهي تتفحصني ، عندي شرط وحيد، أن تكون العصمة بيدي.
فزت أمي مفزوعة ، وهي تكاد تحطم " الفازة " : كله إلا هذا.
قلت وقلبي يسقط تحت قدمي : انتظري يا أمي.
قالت وهي تهبط السلالم الرخامية : أنت يا ولدي لست ابن حرام لتبيعك وتشتريك النساء .
قلت ودمي يفور في نافوخي . انتظري لحظة واحدة يا أمي ، وقد كنت مستعدا تماما ، صعدت السلم درجتين درجتين . واجهتها بحدة مميتة : أنت مجنونة ، وسوف تموتين كخرقة بالية .
ضحكت في عصبية ، وأصابع الباشا تنفض رماد السيجار : نجوى . أجئت بمجنون ليتزوجك؟
لم أتطع النوم ليال وليال . صرت أشعر بالملاءة تحتها جمر ، وأنا اتقلب ، وكلما أتيت لك يا أمواج طشطشت الجمرات ثم عاودت التوهج.
إنها غواية الجارية ، وهروب نسرين ، وخديعة نجوى التي أرادت أن تكون رجلا بملابس نساء موشاة بفرو من القطيفة.
أمواج .. يا أمواج..أخشاك أكثر من كل مرة : ماذا تريدين مني غير العري؟ روحي وضعتها بين راحتيك ، وهي تلوح لي أن أهبط القاع كي تستمتع بي ثم تميتني ، قبل أن أعترف بسرها الأثيم.
أمواج .. يا أمواج .. تكاد الدفقات تغرقني ، وأنا أتحسس طريقي نحو الجنوب ، هناك في حضن الجبل ، حيث النساء مدسوسات في لفائف الأسود ، وحيث لا بحر . لا أمواج . لا فتنة تخطف القلوب من الصدور
أمواج . يا أمواج ..
أنني في انتظار ان تخطفني الجارية إلى أسفل أسفل ما تستطيع ، وسأذهب إلى القفر الأجدب جثة هامدة ، وسيسارع أبي في دفني بكل الطقوس المعتادة . سيجلس في صدر السرادق يمد يده بالسجائر محشوة بالحشيش الخام . سيتقبل العزاء ، وينظر بشماتة بالغة نحو الشمال . هناك خصمه البحر الذي أغواني ، وأغوى كثيرين مثلي من الغرباء .
( انتهت )