- هاهـمْ أحبّتي قد استيقظوا والنقاءُ يغازلُ جفونَهـمْ، سأعرّفُـكَ إليهمْ يا قيسُ واحداً واحداً..كمْ أحبُّ أنْ تصبحَ فرداً من أفرادِ واحتنـا! ليتكَ تعيشُ معنا بأرضِ الزمن الجميل، تحتَ سمـاءِ المحبّة، زادنُا الشعرُ والنثرُ والعطـاءُ، سيكونُ الجميعُ سعداءَ بكَ وبقلمكَ، فما رأيُـك ؟؟
فأجابني بابتسامـةٍ جذلـى :
- لاأستطيعُ أن أكونَ جاحداً لِمَنْ أكرَموني، لمَنْ تكبّدوا مشاقَّ الطريق وأهوالَـه كيْ يعيدوا إليَّ حياتي التي فقدتُ: ليلـى ..
ثقي بأنّني إذا استعدتُ ليلايَ سأكونُ معكمْ بإذن اللـه، فلطَالـمَا حلمتُ بقبيلـةٍ تحفظُ للإنسانِ إنسانيتَـه، تُخضّبُ أكفَّ الروحِ بالنقـاء، تنافحُ عنْ القيمٍ العليا وتسعى لبقائها.
- قرْ عيناً وطبْ فؤاداً يا قيسُ، وثقْ بالرحمنِ وبنـا، هيّا إذاً لندخل خيمـةَ القِرى، هناك أجتمِعُ وأحبّتـي لتناولِ الطعامِ وتجاذبِ أطرافِ الحديث..فأَسْرِعْ، لأنّني ألمحُ زعيمَ قبيلتنا د. سميـر العمري يلوّح إلينا من بعيد ومعـه الأحبّـة.
ورافقني قيسٌ إلى خيمةِ القِرى، ولأوَلِ مرّةٍ منذ لقائـي به، ألمحُ بسمةً صغيرة لم تشبَّ عن الطّوقِ بعدُ، تتعلّقُ بتقاسيمِه المنهكـة، وكأنّها طفلـةٌ صغيرة تفكُّ شفرةَ الفـرَح لأول مرة.
غمرَتني إثرَ ذلك فرحةٌ صدّاحـة بعثرَتْ مخاوفي وأغلقتْ منافذَها، أخيراً ينتزعُ قيسٌ سيفَ الأمـلِ من غمدهِ، بعدما مكثَ به ألـفَ وجع! الحمد للـه على نعمـِه التي لا تُعَدّ ولا تُحصـى .
ودخلْنا الخيمـةَ وطيفُ ليلـى يرافقنا، وجلسْنَـا واستغرابُ أحبّتي يتقفّـى ملامحَ هذا الضيف، هذا الزائر الذي حملَتْـهُ إلينا شمسُ الصبّاح، مغطّىً بالأزمنةِ الذابلةِ ولياليـها.
حلّـقَ الصمتُ بقلوبِ الحاضرينَ، ليحطّ على قلبي قلِقـاً وهو يأمرني بفكِّ سراحِـه :
- أحبّتي ، أتعلمونَ مَنِ الضيف ؟؟ إنه قيسٌ بن الملوّح مجنونُ ليلـى، لاتستغربوا ! لمْ أشكَّ يوماً في أنّ الطبيعةَ تنبضُ بالمشاعرِ والأحاسيس مثلَ بني البشر، لم أشكَّ يوماً في أنها تلهجُ بالحنانِ والدفءِ والعطاء كقلوبكمْ، كنتُ دوماً أثقُ بأنّها سلوانُ المهموم وأنيسُ العاشق، بأنّها بلسمُ المكلوم ولغـةُ القلب، بأنّها رسولُ المحبّة على الأرض. هاهي ذي الشمسُ الرؤومُ تفي بوعدِها لي، تحملُ أبياتَ شعري بأهدابِ نبضِهـا إلى قيس الذي سَكنَ الغيابَ، الذي اختبأَ بصمتِ الفيافي وهمسِ الحكايا.. لولاَها لَما أزهرَ الغيابُ، ولولاها لَمَا سافرَ إلينا قيسٌ على جناحِ الشوق متدثّراً بالبوح. أحبّتي، أقدّمُ لكمْ مجنونَ ليلـى .
و ابتدرَهُ زعيمُ قبيلـة "رابطة الواحة الثقافية" د. سمير العمري بالحديث، وهو يقدّمُ لـه التمـرَ مُرحِّبـاً :
- حللتَ أهلاً ونزلتَ سهلاً أيها الشاعر العاشق، افتحْ شرفاتِ قلبِكَ للغدِ الأحلـى، وثقْ بأنَّ آلامَكَ ستنضبُ قريباً، فتنضب معها ذكرياتُها المُرّة تبَعاً. تفضّلْ شارِكـنا طعامَنـا وشرابَنا، ولكَ في صحبَتِـنا السلوانُ والخيـرُ بإذن اللـه.
وقدَّمَ إليهِ د. سلطـان الحريري جِرارَ الحليـب مرُحِّبـا به:
- هذا أعظمُ يومٍ في التاريخ ! نجلسُ إلى قيسِ الهوى والوفاء، نحدّثه ويحدّثنا بعدَ أنْ كنّا نقرأ عنه بأمهاتِ الكتب وحسبُ. ألِمْـنا لألمك وظلَّ وجعكَ ينتحبُ بصدورنا حتّى اليوم، وبفضلِ اللـه وبفضلِ هذه القلوبِ الطيبة التي شرِبَتْ مِنْ نهرِ المحبّة الصادقـة، سيزقزقُ زمنُكَ الجميلُ من جديد على أفنانِ حياتك. أهلاً بكَ بينـنا ..
واقتربَ البحتري منْ قيـسٍ مصافحاً، وبيديْـهِ زهورُ الياسمين:
- هذه لكَ ياقيسَ الهوى، أقدّمها لكَ احتفاءً بـكَ، قطفناها لكَ مِنْ حدائقِ زمنِـنا، أهلاً بكَ ومرحباً.. سعادتُنا بحضورِكَ اليومَ تغرّدُ ملءَ قلبِِـها.
أمّا زاهيـة، فقد ابتسمتْ وهي تشيرُ بيدها إلى جرارِ العسل المصفّى :
- على الرحب والسّعـة ضيفَنا الشاعر العاشق الوفيّ، أحببناكَ في اللـهِ مذْ قرأنا عنكَ وعنْ شعرك، نسألُ الرحمنَ أن يُنيرَ دربَكَ وينفضَ عنْ جدرانِ قلبكَ الوجعَ. هذه جرارٌ من العسلِ المصفّـى ومن الماء المثَلّج، أعددتُها بنفسي من أجلِ أحبّتي، واليومَ أنتَ فردٌ منّـا، لكَ ما لَنـا . تفضّل شارِكـنا الطعامَ والحرف .
واعتدلَ قيسٌ في جلستِه بعدما هـدَّهُ البكاء، والامتنانُ بمقلتيْـهِ قد ألَّـفَ عِقْداً مِنَ حبّاتِ السَّجمِ:
- غمرتموني بنقائكمْ وطيبـةِ قلوبكمْ، هذا أكثـرُ ممّـا أستحقّ ! ماكنتُ أحسبُ أنّ الطّيبـةَ نبضةٌ مزروعـةٌ بأرضِ القلب حتّى لقيتُكـمْ، ما كنتُ أدركُ بأنّ ثمـةَ فرسانـاً يحفظُون للمبادئِ وللقيم الجميلة النبيلـةِ ماءَ وجهِهـا حتّى سمعتُ عنكمْ، هي رحمةُ اللـهِ أطلّتْ على دربي البهيمِ لتُشعِـلَ من جديد قناديلَـه.
ودغدغَ قلبَـهُ حنينُ ناقتِـه خارجَ الخيمـة، ناقتـه التي كانت متكئةً على الأشواق والآمال، تستمعُ إلى رفيقِ دربها وقلبُها يتقطّعُ حزناً عليـه، فأنشـدَ:
"أحِنُّ إذا رَأيْتُ جِمَالَ قَوْمِي
وأبكي إن سمعت لها حنينا" 1
وأجهشَ في بكاءٍ طويلٍ، فإذا بِعادل العاني يقوم من مجلسِـه ليجلسَ قُربَـه، وقيثارةُ شعــرِه بيـده ..
------- يُتبَـعُ بإذن اللـه ------
--------------------------
1- شعر قيس بن الملوّح .