مذكرات معلمة
سلوى محمد العوا
بين يدي معلمي الأوائل
تقديم وإهداء
".. غير أني أدركت أن العالم لم يصبح أكثر مسالمة بفضل نصائحي الكثيرة العظيمة والمفيدة ، فالحماقة غزيرة وسائدة ، واللا كفاية رائجة , والاستقامة سقيمة ، والطلاب متمردون والأبناء جاحدون واللصوص كثر ، السلطة تفسد ، وعظامي تئن في الصباح . ومع ذلك ، فما زال الفضاء يشهد أمورا رائعة : ميلادا ونجاحا وأحلاما صغيرة أحيانا تتحقق وصغارا يكبرون .. أشكالا وألوانا وتحركات وتشكيلات غيوم ولوحات شمس شارقة وغاربة فيها من الروعة ما يحضُّني على إنهاء كل يوم ضاحكا ومملوءا بالأمل وطالبا المزيد .."
* كنت صغيرة جدا عندما تمنيت أن أكون معلمة ، وقد كبرت أمنيتي معي وكبرت معها مساندة أسرتي ومعلميّ . وكنت دائما متأكدة أني سأكون معلمة ، ولم يكون لدي تصور آخر "لعمل جيد ".
طبعا سأكون معلمة ، إذ يجب أن أكون مثل جدي الذي أذكر وجهه في مشاهد قليلة من طفولتي ، ولكنه كان معلما عظيما كما قالت أمي .
ومثل جدتي ، التي لم أرها ولم أعرف عنها غير أنها "كانت من أوليات المعلمات في جيلها " كما قالت أمي .
ومثل أمي نفسها التي تولت الحكايات عن معنى المعلم وما يقوم به ، وتولت التأكيد الدائم على أني سأكبر ، " وسأكون معلمة ، وأعلم طلابي كيف يعيشون حياة سعيدة ويكونون أقوياء وعادلين وسأغير بما أعلمهم العالم وأقلل ما فيه من ألم وظلم ، ولذلك عليّ أن أتخلص من مخاوفي وأحزاني وأستعد لأكون معلمة حقيقية وصالحة ".
وسأكون معلمة مثل أبي الذي تولى الحكايات عن المعلمين الأوائل ، الرسول عليه الصلاة والسلام , والأصحاب والتابعين ، وكفاحهم الذي لم ينقطع لنشر ما كانوا يؤمنون بأنه الحقيقة والصواب وأن الناس يحتاجونه إصلاح حياتهم ، وعن العلماء والمحدثين والفقهاء ، الذين نحتو الشكل الأول للعلم وشقوا الطريق لطلابهم كي يكونوا كبار العلماء الذين نتطلع إليهم في انبهار بشموخهم وفزع من ضآلتنا ، وعن معلمه شيخه تلميذ المشايخ ، الذي علمه طلب العلم ، على قسوة الحصول عليه ، وإعطاءه على ندرة من يستقه ، وأيضا عن معلمين آخرين ، غيروا العالم ، غيروا الجامعة ، وحاربوا من أجل الحق ، وصمدوا حتى شقوا لطلابهم طريقا في شعابها المتشابكة والعسيرة.
وأبي أعطاني كل الكتب وأقرأنيها ، وتركني لأخوض ما أردت أن أخوضه من شعاب ، مصيبة كنت في ذلك أم مخطئة ، وكان هناك دائما حيث أردته أن يكون في بداية الطريق ونهايته ، يدفع قلبا وجلا أو يأخذ بيد مكسورة . تستمر دائما حكاياته عن الطلاب والمعلمين والحق والباطل واستمرار الأمل الذي هو مستمر ..لا محالة ، " كره ذلك ما كره وأحبه من أحب ".
* وأردت أيضا أن أكون معلمة لأكون مثل أساتذتي الأوائل في الطفولة التي كبر على درجها أملي وكان يأخذ في التحقيق في كل يوم أحضر دروسي وأراقب خلالها سلوك معلميّ واستجابات زملائي الطلاب ، وأثر كل ذلك ، وأشغف به أكثر من أي علم آخر كنت أتلقاه في المدرسة .
ولذلك ، لم يكن من بد من أكون معلمة كما قالت أستاذتي فادية القاضي التي لم تغضب أبدا إذ صوبت لها يوما خطأ في العربية ، وأنا طفلة صغيرة ، بل قالت لي إنني سأكون معلمة اللغة العربية ، وستعتز هي بذلك وتفتخر بأن ابنتها الصغيرة التي صوبت خطأها قد غدت معلمة كبيرة .
ومثل أستاذتي إكرام حسن التي كانت تسعدنا جميعا بابتسامتها الطيبة ، وتريحنا جميعا بتفهمها إذ نشكو ما يشكو الأطفال أو نتذمر مما لا نفهمه من النحو ، وتجعل درس النحو وقتا للرحمة والحب والتفكير المنطقي والتحليل الهاديء واتساع الأفق لفهم ما نقوله ونسمعه .
ومثل أستاذتي أميرة القصاص التي كانت تقاوم متاعبها في حياة شاقة ، وترابط صابرة لتعلم العربية لحفنة من الصغار التافهين عديمي التقدير .
ومثل معلمتي فايزة صايمة التي جعلت من قلبها مزارا لكل البنات اللاتي أحببنها بشغف الطفولة وأدمن الاهتمام بالعربية ، طمعا في رضا معلمتها المحبوبة لا لأي سبب آخر .
ومثل معلمتي أميرة وايناخ التي راسلتني بعد رحيلي عن مربع الطفولة حتى حين ، قرأت رسائلي ولم يكن من واجبها أن تقرأها ، وأفرحت قلبي الصغير بجوابها ، شدت أزري وعلمتني أن أحب المكان لأنه مكاني لا لأنه كما أريد .
ومثل معلمنا الصابر المكافح الأستاذ سيد بهنس الذي علمنا أن الصوت المرتفع يزعج ولا يسمع , وظل صامدا – بما في قلبه من إيمان – على ما في عالمه من محبطات .
ومثل معلمي المهيب الرجل العجوز طيب القلب مخيف الحزم الأستاذ محمد خلف الله الذي كان به من حب طلابه ، وتقديره عظمة ما يعمل ، إذ يعلمهم العربية ، ما يعزز غضبه لصغائر لم يرها لائقة بهم ، وهو من لم تمنعه غربته في هذا العالم القاسي أن يحب الطلاب إذا أحبهم ولا أن يقول الحق إذا انبغى أن يقال .
ومثل الأستاذ محمد عبد الصمد الذي أحب اللغة العربية حبا صوفيا عجيبا ، جعل دروسه قصائد قصيرة في حبها ، لم يتمتع بها إلا من " ذاق " ، وهون عليه حبه ذاك مصاعب الحياة.
* ومثل معلمين آخرين أردت دائما أن أكون ، مثل معلم علمني ألا أتكلم بسرعة لا يفهمها طلابي ولو كان هذا أسهل علي ، وأكثر اقتصادا في وقت يحتاج إليه برنامج مكثف ، بل أن أبحث دائما وبدأب ، عن طريقة عملية بديلة ، أعوض بها قصر الوقت أو كثافة البرنامج ، وأحفظ لطلابي – في الوقت نفسه – حقهم في الاستماع إلى لغة مفهومة والاسترخاء في حضور مدرس رحب الصدر .
ومعلم علمني ألا أجعل من علمي حرفة أبدا ، ولو كان عملي مصدر رزقي الوحيد ، فإني لن أنجح فيه أبدا إلا إذا فعلته دائما بحب ، وفقط من أجل هذا الحب ، وبهذه الطريقة سيفتح لي عملي أبوب رزقه ، لأن الحب الصادق هو الذي يمنح الصادقين عطاياه .
ومعلم علمني ألا أترك فصلي إلا وفي قلب كل من طلابي علامة جميلة ، كلمة طيبة لا تنسى سيعرف من خلالها نفسه ، وتساعده حتى يتعرف على ما يريد ، أو تؤكد له أنه يستطيع أن يحقق ما يريد ، هذه العلامة التي ستكون نجما له مضيئا في درب مستقبل يجهله وأجهله ، ولن أكون هناك لأسانده ، لكن كلماتي ستكون هناك ؛ ستأخذ بيده وتهدي عينيه ، حيث لا يصدر العالم إلا الضوضاء وفوضى مضلة ومشوشة .
ومعلمة علمتني ألا أقول إلا كلمة جميلة , فلا تمتليء لحظات قصار أقضيها مع طلابي إلا بكل الحب الذي يعيدهم إلى الفصل في موعد الدرس التالي بشوق ، لا بملل ورغبة عنيدة في الإفلات ، وتهون علي ذكرى وقت الفصل الجميل ، أداء واجب العود كل صباح إلى نفس المكان في نفس الوقت بنفس الملابس لأعمل نفس العمل ، على صعوبته ورتابة تكراره ، وعلى الرغم من منغصاته الإدارية والاقتصادية ، التي تعكر صفو كل صباح .
ومعلم علمني أن التجارة تفسد التعليم ، وأن أسوأ ما يمكن أن يعمله المدرس في الفصل هو الترويج لبضاعته عوضا عن منحها للطلاب الذين سيدفعون ثمنها على أية حال ، وهم أيضا سيعرفون بأنفسهم أنها بضاعة جيدة ، إن كانت كذلك ، لأنهم في الفصل ولا عمل لهم سوى أن يجربوها . ولا عمل لنا إلا أن نجعلها حقا جيدة . إن وقت الدرس جعل لهم ليحصلوا على بضاعة العلم ، التي جاءوا طالبيها ، لا لإعلامهم بأنها حقا جيدة ومهمة.
ومعلم علمني أن الخطر على المدرس ليس هو اقترابه من طلابه إلى درجة يظن معها أنهم قد غدوا أصدقاء وفقد بذلك هالته المهيبة ، بل إن الخطر الحق هو الابتعاد عنهم حتى يفقد طلابه شعورهم بوجوده في عالمهم نفسه ، ويفتقدون إيمانهم بأن عمله الوحيد هو تعليمهم : ترقيتهم ومساندتهم وتعزيز ثقتهم بقدراتهم وبالعالم الخيّر ، فيضيعون منه في الحقيقة ولا يبقى أي فارق يذكر بين تلقيهم علما من أوراق يجمعها مجلد واحد ، يسمى الكتاب ، أو من دوائر بلاستيكية لامعة تسمى الاسطوانات المضغوطة ، حاملات العلم المركز في كبسولات سريعة الهضم ، وبين تلقيهم إياه من روح حية تعرف الحب والإيمان .
* ثم وهبني ربي أمّا ثانية – بعد أمي – استمعت إلى حكاياتي باستمرار وبحب ، وعلمتني درسا متجددا عن الاهتمام الصادق بما يكرر أولادنا حكايته من تفاهات مملة حتى يستمروا بثقة في خوض تجربتهم ونسج حياتهم ، على طريقتهم الخاصة ، عوضا عن فرض رؤيتنا وطريقتنا . وأما حين ينبغي توجيههم لئلا يحيدوا فإن تساؤلا بريئا أو ملاحظة هادئة في صيغة : " أظن ، وربما ، ولعل ، وألا يمكن أن يكون .. " يستطيع أن يفعل ما لا يفعله تقرير آلاف الحقائق بطريقة المواعظ الأبوية التقليدية .
وبمساندتهما ، الواحدة تلو الأخرى ، ومساندة أبي ، وبثقة هائلة وضعوها جميعا فيما اخترته لحياتي وأردت أن أكونه ، وبتسامح جليل من كل أخطائي الجسيمة ، وبتأييد مستمر لي جعلني استطيع عبور هوىً حفرتها أخطائي التي كانت دائما قادرة على تحطيم طموحي إن ترك لها الطريق مفتوحا حتى تلتهم ضميري تبكيتا وتأنيبا ..
بكل ذلك .. وبذلك فقط استطعت أن أكون ما أردت أن أكونه .
* ولما كنت فيما بعد معلمة ، كانت أولى مفاجآت حياتي الكبرى : أن الحقيقة أجمل وأغنى كثيرا من الحلم ، وفرحت بها فاغتنمتها بحماس ، وعلى طريقها تعلمت دروسا أخرى من الفصل ، ومع الطلاب الذين بذلوا بدورهم جهدا غير متعمد ليجعلوني معلمة حقيقية .
وعن هذه الحقيقة الجميلة ، بما فيها من مصاعب ومشاق عملية تتعلق بالاختيار والتعامل الإنساني وتحويل المثاليات إلى واقع ..
عن أول تجاربي في الفصل بدأت أكتب هذه المذكرات . حاولت أن أفصل فيها الجواب عن أسئلة حيرتني وكان مدراها كيف أنجح في تعليمهم ما أريد . وأن أصف طرقا وجدتها أنجح من غيرها في تحقيق هدف التعليم ، مختلطا كل ذلك بما تكتنفه حياة المدرسين والطلاب من تداخلات وتجارب إنسانية مؤثرة.
كمثل كل معلم تعلمت منه درسا غير مكتوب على لوح ولا في كتاب مدرسي ، أردت أن أسجل دروس الفصول على أوراق أقيد فيها لكل معلم يتعلم ، كل يوم ، كيف يكون معلما حقيقيا .
إنها بعض دروس تعلمتها على الطريق الشاق الغامض الذي يجمعنا كلنا دون أن ندري أنا معا .. شخص واحد كبير هائل .. يغير محتوى حياة الآخرين ، وبأنامله يشكل ملامحها .
" لكن ثمة أمرا مطمئنا حين ندرك أنا لسنا معنيين بإنقاذ العالم وحدنا أو بمنع الشمس من الهُوىّ والكرة الأرضية من التوقف عن الدوران . ما نحن معنيون بفعله ، وهذا رجائي ، هو أن نملأ مؤقتا شقا صغيرا ضيقا لبرهة قصيرة ثم نستريح . أنا مرتاح إلى مفهوم كوني صوتا صغيرا واحدا من أصوات كثيرة ، ليس الأحكم ولا الأفضل لكنه صوتي أنا "
( يتبع )