هتافات وشعارات كثيرة ، وأهالى القرية يهتفون :-
- عاش العمدة ، يا حامى بلادنا ، يا حامى ديارنا ، يا حامى فلوسنا ، يا حامى قوتنا .
وفى نهاية يوم من الأيام تم التصويت لصالح العمدة ، وفاز بالعمدية ، وبعد التصويت ذهب كل شخص من أهالى القرية إلى بيته ، غالقاً عليه بابه ، إلا رجلاً واحداً فى ريعان شبابه لم يتعد الثلاثين من عمره ... خرج من كوخه الخشبى المطل على ترعةٍ جافة ، مهلهلة ملابسه ، ممسكاً بيده اليمنى عصاه الغليظة ، وبيده اليسرى منديله العتيق ، راسماً على الأرض الوحلة أشكالاً لوجوه تشبه وجوه البشر ، ويضربها بكل ما أوتى من قوةٍ صارخاً فيها :-
- " ليه ما تكلمتوش ... ليه ... ليه " .
وفجأة حل صمت رهيب ، وخيم على المكان نوع غريب من السكون لم يعهده من قبل ، فانقطع صوته ، وأحس داخله أنه غريب عن ذاته ، فانفجرت عيناه بالدموع باكية ، وارتعشت يداه مجففاً دموع الماضى والحاضر بمنديله العتيق الذى اشتكى من طول فترة الأسر ... لدرجة أن مزقته الرياح الرقيقة بمطرها القليل ... وبقوة كل عاصفة قادمة فى كل عام ، ولا شئ بيده غير الصبر كى يستريح ويتركه صاحبه ، ويقذف به فى اليم ليتشرب جرعات كثيرة من المياه ، ليغسل دموع صاحبه الأسير الذى أخذ يتراقص ويتغنى كالمصاب بهستيريا الغناء والعناء والرقص فى آنٍ واحد :-
فوز العمدة واجب ... فوز العمدة واجب
وأنا أعمل إيه ؟ !
هو كده فايز ! ... هو كدا فايز !
وأنا أعمل إيه ؟ !
التعب ورانا ... التعب ورانا
وأنا أعمل إيه ؟ !
السكوت ويانا ... السكوت ويانا
وأنا أعمل إيه ؟ !
***
يا عمدة .. يا عمدة
انت فين يا عمدة ؟!
بتاكل إيه يا عمدة ؟!
ما تدينى لقمة !
وأنا أعمل إيه ؟ !
لابس إيه يا عمدة ؟!
ما تدينى هِدمه !
وأنا أعمل إيه ؟ !
ليه تسيبنى وحدى ؟!
ما تدينى أرضى !
وأنا أعمل إيه ؟ !
فوز العمدة واجب ... فوز العمدة واجب
وأنا أعمل إيه ؟ !
هو كده ... كده ... كده .... أعمل إيه ... إيه ... إيه
وما أن دنت منه مجموعة من النسور إلا وقد امتنع عن الغناء والرقص ، واحتبس الدمع فى عينيه ، وأطار المنديل مع عاصفةٍ قد اجتذبته وألقت به فى اليم ، ومزق جسده ، وتلاشت صورته ... وراح صوته هباء فى مهب الريح .
***
وعاد المنديل متطايراً ، راقصاً ... مرحاً ... فرحاً ، فهدأت العاصفة ، واستقر على الأرض ، وطار ثانية فى الهواء كمحبوسٍ خارج من زنزانته بعدما أطلق سراحه السجان ، وهبط ... وتوقف بغتةً باكياً ، فلم يجد صاحبه الأسير ، فنادته من جواره العصا الغليظة ... ففرح فقد وجداً أثراً من آثاره .
وخرج طفل صغير من بيته سراً ... يترقب المكان خوفاً من أن يراه أبويه ، ويكون عقابه عسيراً ، ودخل كوخ الأسير ، وأحضر عصاً غليظه رفيعة ، ورسم خارج الكوخ فى الأرض صوراً تشبه الفئران ، وأخذ يرقص ويغنى :-
- " فوز العمدة واجب ... فوز العمدة واجب "
هو كده فايز .... هو كده فايز !
فخرج أطفال القرية من ديارهم يرددون معه أغانى الأسير ...