كانتِ الشمسُ مستسلمـةً للفضول، تتمنّـى أنْ تعرفَ مايدورُ داخلَ الخيمـة بعيداً عن رقابـةِ أشعّتِها، حاولـتْ أنْ تتكّئَ على منصّـةِ البوحِ المنصوبـةِ ببابِ خيمةِ القِرى، ولكنّها لم تُفلِح، فأصرّتْ على الرحيلِ إلى بيتِها النائي كطفلٍ مُغاضِبٍ .. ولكنَّ رحيلَـها كانَ خافتاً لم نشعرْ بـه، خصوصاً وأنّ فرحَتي والأحبّـة بلقاء قيسٍ ظلَّتْ جالسةً معنا تعزلـنا عن العالمِ بأسره .
ظلَّ عادل العاني يربّتُ على جراحِ قيسٍ، وهذا الأخيرُ غارقٌ في حزنهِ وهذيانِه:
- يا قيسُ، لاتفقدْ هذا البريقَ الذي يأتلـقُ بعينيْـك أمَلاً، ثقْ بأنّ ربّ البريّة سيصلحُ شأنكَ كلَّـه، وبأنّنا لن نتخلّى عنكَ حتى يعودَ الربيعُ إلى مضاربِ روحكَ من جديد، وهاهي ذي قصيدتي التي كتبتُ من أجلكما، مطلعُـها :
يا ابنةَ العـمِّ ليلـى مرحبـاً فيهـا
ما عادَ في القلبِ أسرارٌ يواريهـا 1
خبّأتُها بغِمْدِ السرّ حتّى ندخلَ قبيلتَكَ ونلقى ليلى فألقيها بحضرتِها وبحضرةِ رجال القبيلـة .. عليهمْ أنْ يكفّوا عنْ إزهاقِ الفـرح، وأن يعتذروا منكما ومنْ حبّكما العفيف، وإلاّ ظلّ مافعلوه بكَ وبليلـى وصمةَ عارٍ بجبينهمْ مدى العمر والزمن .
وقدَّمَ إليـهِ محمد ابراهيم الحريري الفاكهـةَ، والبسمةُ مزهرةٌ على أغصان ملامحه:
- ياقيسُ ! واللـهِ لحقـتُ بقافلةِ الأحبابِ بعدماَ سبقَـتْني وسبقوني إليكَ وإلى قبيلتكَ دونَ إخطاري، وكُلّي عزمٌ على ردِّ الشمسِ إلى كبدِ سمائكَ بسيفِ القلمِ والوردِ والمحبّة الصادقة ..لمْ أُبالِ بالقيظ والهاجرة لأنّ حرَّ الهجيـرِ مشتعلٌ بصدري الذي فُجِـعَ فيك وفي قلبكَ المكلوم، مذْ تيهِكَ بصحارى الضياع :
لم أعلم الـدرب إلا بعـد رحلتكـم
والقر والحـر نـالا رحلتـي نيـلا
لما علمت بقيـس مـن مضاربـه
قالوا اكتوى جنة رقياه مـع ليلـى
قلت المضارب قالوا (حرمة ) سُمعت
كانت تعـد عـدادا ,تمتطـي خيـلا
قلت الطريق فقال الشيخ خذ بيـدي
اتبع طريق الهوى واحذر به سيـلا
بعد المغامـرة الجذلـى بعوسجهـا
ليلى تغني بمحمـوم الهـوى ويـلا
هبّت نسائم ليـل الوجـد فاتعشـت
أوتار صبوتنـا زدنـا مُدَّهـا كيـلا 2
يا ضيفَنا الكريمَ الوفيّ، هلاّ رويتَ لنا ما واجهَكَ مِنْ أخطارٍ ومالقيتَه في سفركَ من مفاجآت وأحداث ؟؟ فالشوقُ لمواصلةِ السّفرِ يكادُ يفتِكُ بنـا، والنعاسُ لمّا يتثاءبْ بعدُ بأجفانـنا، وكيْ نطردَ الهمَّ عنكَ وعن مجلسنا الجميل هذا، يُسْعدنا أن نسمعَ منكَ شاعرَنا العاشق ..فكلّنا شوقٌ لأحاديثك، ومع الشعر والنثر والحكايا يحلو السّهـر.
فأجابَ قيسٌ والبسمةُ تستيقظُ مرةً أخرى من غفوتها، لتجلسَ هي الأخرى إلـى مائدةِ السّمر والسّهر قبلَ أن تحطّ على تقاسيمـه :
- أسعدكَ الرحمنُ أيها الكريم، يسرّني أنْ أشاطركمْ الحديثَ والبوحَ كما شاطرتكمْ الشعرَ والنثرَ والطعامَ والشرابَ والمحبّة الخالصةَ لوجهِ اللـه تعالى، فأنتمْ الكرام أبناء الكرام ..
لقيت ُبسفري أهوالاً كثيرة، والتقيتُ بسعالـى وجانٍ وأقوامٍ لمْ أرَ في حياتي أغربَ منهمْ ، وكلّ ذلكَ وطيفُ ليلـى لايغادرني البتّـة، وكأنّه كان يحرسني من أيّ سوءٍ أو مجهولٍ يترصّدني، حتّى حينَ كنتُ أغفو بينَ الفينةِ والأخرى، كانَ طيفُهـا حارسي يسهرُ بعدَ أنْ يوقِدَ شموعَ الحنان والمحبّة والوفاء، لتُضيءَ ظلماتِ وحدتي.. آهٍ ليلـى ! :
حبيبٌ نأى عنِّي الزَّمانُ بِقُرْبِهِ
فَصَيَّرنِي فَرْداً بغيْرِ حَبيبِ
فلي قلب محزون وعقل مدله
وَوَحْشَة ُ مَهجُورٍ وَذُلُّ غَريبِ
فيا حقب الأيام هل فيك مطمع
لِرَدِّ حبيبٍ أوْ لِدَفْعِ كُرُوبِ 3
وغرقَ في نحيبٍ طويلٍ ألجمَنا جميعاً، حتّى الصحراءُ التي كانت تستعدُّ لوداعِ الشمسِ الغاضبةِ منّا، قدْ اشتعلَ رأسُها حزناً عليـه.
فاقترَبَ منـه مصطفى بطحيش متأثّراً بمُصابِـه، يهدّئُ من روْعِـه شِعراً :
- يا قيسُ ..
لله يـومَ سَـرَوا عَيْنـاً أُداريـهـا
دَمْعَـاً تُغالِبُنـي رُحْمـاً أُوارِيْهـا
يا قَيْسُ كيفَ هُمُ بعدَ الرّحِيل وَهَـلْ
مِنْ نِجْمِـةٍ تَغْفُـو أشواقُنـا فيهـا
هذا سُهَيْـلُ خَجـولٌ لا يُسامرنـي
وَكَأَنَّ في تِـرْدَادِ اللّحْـظِ تَنْويهـا
لَكَأَنّهُ كَلِـفٌ تَكْوِيـهِ نـارُ جَـوىً
لَكَأَنَّ فـي خَفَقـانِ القَلـبِ تَدْلِيْهـا
وَيْحِيْ أراهُ دَنَا مِنِّي لِيَهْمِـسَ لـي
وَيْحَ النٌّجـومِ إذا باتَـتَ أُناجِيْهـا
ما كُنْتُ اَحْسَبُها أقْعَى السُّهادُ بهـا
حتى غَدَوْتُ سَمِيـراً فـي لياليهـا
بَيْنِي وبَيْنَ نُجُومِ اللّيْلِ عَهْـدُ قِلَـى
ما كُنْتُ أحْسَبُنـي يومـاً أواسيهـا
ما كان ظَنِّيْ أنّ النَّجْمَ طـالَ بهـا
وَجْدٌ وطالَ بأهلِ الحُسْـنِ تَوْلِيْهَـا
حتى سَمِعْتُ لها هَنّـاً إذا ارْتَحَلـوا
وسَمِعْتُ صَوْتَ حَسِيْسِ النّارِ تَكْوِيْها
يا قَيْسُ لَوْ اَعْلَمْتَ النَّجْمَ اَيْـنَ هُـمُ
أحْبَابُهـا نُـزُلٌ فالشَّـوْقُ يُرْدِيْهَـا
ما يَوْمَ صَفَّدَهـا وَجـدٌ بِمُرْتَحِـلٍ
عَنْهَـا يَقُـوْمُ لَـهُ يَـوْمٌ فَيُعْفِيْهـا 4
وكانَ قيسٌ يستمعُ إليـهِ والسّجومُ تزرعُ بِخديّه نباتَ الشجن والشوق، وقدْ أثارَ قصيدُه شجونَـه فأنشَـد قائلاً:
أيا ليلَ، زَنْدُ الْبَيْن يقدَحُ في صَدْري
ونار الأسى ترمي فؤادي بالجمر
أبَى حَدَثانُ الدهر إلاَّ تشتُّتاً
وأيُّ هَوى ً يَبْقَى على حَدَثِ الدهرِ
تعز فإن الدهر يجرح في الصفا
ويقدح بالعصرين في الجبل الوعر
وإني إذا ما أعوز الدمع أهله
فزعت إلى دلحاء دائمة القطر
فو الله ما أنساك ما هبت الصبا
وما ناحتِ الأطيارُ في وَضَح الفَجْرِ
وما نطقت بالليل سارية القطا
وما صدحت في الصبح غادية الكدر
وما لاح نجم في السماء وما بكت
مُطَوَّقة ٌ شَجْواً على فَنَنِ السِّدْرِ
وما طلعت شمس لدى كل شارق
وما هطلت عين على واضح النحر
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
أُناجيكُمُ حَتَّى أرى َ غُرَّة َ الفجْرِ 5
ولمّـا هطلَ الدمعُ مدراراً من مآقينـا جميعاً، انتفضَ د. جمال مرسي من مكانـهِ ليكفكفَ أحزانـنا:
- ألاَ تحبّونَ الاستمتاعَ بجوّ الصحراءِ ليلاً ؟؟ لماذا لا نكملُ سهرتَنا الشعرية والنثرية خارجَ الخيمـة ؟؟ والقمرُ أنيسُنـا والنجومُ حرّاسُنـا ؟؟ أمّا الشمسُ التي غادرَتْـنا غاضبةً، فسأبعث لها في الصباحِ بالصّخريـة التي كتبتُ منذ زمنٍ لِعقدِ الصّلح مع البسمـة، وأعِدكمْ بأنّ الشمسَ ستطرقُ شرفاتنا صباحَ غدٍ بإذن اللـه باسمـةً، وهي تهدينا حنانَها وأطباقَ الأمـل الطازجـة.. فما رأيكمْ أحبّتي ؟؟
واستحسنَ الجميعُ الاقتراحَ، بينما تساءلَ قيس عن الصخرية:
- الصخرية ؟؟ !
فأجابـه د. جمال مبتسماً :
- ياضيفَنا الكريم، سألقي عليكَ ببعضِ أبياتـها ونحنُ جلوسٌ إلى الليلِ، نرعى أهدابَ النجوم والقمر، وبعدها نستمعُ جميعاً إلى مغامراتكَ بالصحراء وماتعرضتَ لـه من مخاطر وغرائب .
وهنا قاطعَتْـهُ نورا القحطاني قائلةً :
- أمّا أنا وسحر الليالي وزاهية ونسيبة ويسرى وأسماء، فسنعدّ طعامَ العشاء لضيفِنا الذي أكرمَنا بلقائـه، سيكونُ العشاءُ شِواءً وطبقَ كُسكُسٍ وصُنوفَ بسماتٍ وحكايا أمـل .
وخرجنا جميعاً من الخيمةِ، والنجومُ قدْ توزَّعَتْ على أماكنِ حراستِها ككلّ ليلـة، بينما وقفَ القمرُ يرتّبُ قصائدَ ضوئـهِ وهو يرفلُ في عباءَتِه البيضاء، ليتربّـعَ على عرشِ قلوبـنا قبلَ أنْ يجلسَ على عرشهِ الفضّي .أمّا الجِمَال فقد أرهَقَها الألمُ والشوقُ، فاستسلمتْ لحكاياهما ورحلتْ إلى أرضهما تقتاتُ من أطباقِ الحلـم ..
جلسَ الأحبّـة يتحدّثونَ ويتسامرونَ، ود. جمال يُلقي بصخريته :
و متعشرٍ بالقعطلين تخرشمـت
خرنوفتاه فخـرّ كالخربعزلـي
الهيكذوب الكيكذوب ، تروكعت
بعبولتـاه بروكـة البعبعبـلـي
فانطرّ يودق في الحسيم ضرامةً
شِفن الحِزَبْل على بعيطٍ سرملي
وتخشرفت حرموشة الأمل الذي
أعشت متاهبـه فـلاذ بفرجـل
وغدا بُعيـد الأندبـار مقعقعـاً
الهـق هـقٌ والزمـان ترللـي 6
ودغدغت الضحكاتُ قلوبَ أحبّتي، حتّى قيس الذي كان عَصِيّـاً على البسمةِ.. مُحاربـاً لها، أراهُ لأول مرةٍ يهجرُ مواسمَ الغروب ليُشرِقَ مع ضحكتِه كما تشرقُ الشمسُ مع أولِ قطرةِ ندىً، فابتدرَهُ ماجد الغامدي قائلاً :
- ما أجمـلَ قصيدَ الفرحِ والبسمةُ تكتبـه على محيّاكَ يا قيسُ ! لاتسمحْ للحزنِ أنْ يستعمرَكَ ويقتاتَ منْ مدّخراتِ الأمل المختبئةِ بأعماقك ..ألا ترى القمرَ هو الآخر يبسمُ لك ؟؟ يسألكَ البقاءَ بأرضِ الغدِ الأحلـى ؟؟ والنجمةُ الأولـى التي اعتزلتْ صويحباتِها، فقطْ كيْ تجلسَ قربكَ وهي تعزفُ لحونَ النّور لكَ وحدك، أفَلاَ تبتسمُ إرضاءً لها هي الأخرى، وصوْناً لزهرةِ الأمـلِ التي تتعلّم أولَ مبادئِ التفتُّـح شيئاً فشيئاً من أجلـكَ؟؟؟
ابتسمَ قيسٌ وهوَ يحدّقُ فينا مغرورقَ العينين، وكأنّ دموعَهُ تشاطره شُكرَ الرحمن على كرمه وعطائه :
- تعلمون ؟؟ هذه أول مرةٍ تحيـا الضحكةُ بداخلي من جديد بعدما خمدتْ منذ فراقِ ليلـى، هجرتْني الضحكاتُ والبسماتُ قبلَ أن أهجرَها، بلْ أقسمَتْ بأنْ تتوّجَنـي ملكاً للأحزانِ، تاجـهُ الألـم وقيثارتُه التّيـه بفيافي الوجع، تخشى الأفراح من الاقتراب منه وإلاّ صوّحَـتْ واحتُضِرَتْ .. وأخشى أنْ ...
فقاطعَـتْـهُ يسرى قائلةً :
- بلْ ستلقاكَ الأفراحُ بإذن اللـه وهي تشرقُ وتغرّدُ على جنباتِ روحك، أبْشِرْ بفرَجِ اللـه يا قيسُ ..!
وجلسنا جميعاً مستمتعينَ بالحكايا التي كان يقصُّها علينا قيسٌ، ونحنُ نتناولُ الطعـامَ تحتَ ضوءِ القمر وقناديلِ النجومِ، بينما تقدّمَ محمد المختار زادني بكلّ تواضعٍ وكرمٍ، لإعداد الشاي متطوّعاً، وللعزف على الرّبابـة كما وعـد من قبلُ، وهو يُنشِدُ قصائـدَ الأحبّـةِ ..
------ يُتبَـعُ بإذن اللـه -----
--------------------------------------
1- من شعر عادل العاني
2- من شعر محمد ابراهيم الحريري
3- من شعر قيس بن الملوّح
4- من شعر مصطفى بطحيش
5- من شعر قيس بن الملوّح
6- من شعر د. جمال مرسي