ظلَّ القمرُ يرقُبنا مِنْ قريب، وكأنّه يضمّدُ في غفلةٍ منّا كلّ الجراحِ المُعَتَّقـة ..
واستمرَّ قيسٌ يقصُّ علينا الغرائبَ التي صادفَهـا بطريقـه، والأحبّـةُ جميعُهمْ يُنصتُونَ باهتمامٍ بالغٍ والخوفُ والدهشةُ تعقدانِ قلوبَهمْ . نظرَ خليل حلاوجي إلى لوحةِ القمرِ فقـال:
- يا قيسُ، كلُّ الغرائبِ التي صادفتَ في رحلتكَ وعمرِكَ المرتحلِ بينَ الألـم والتّيـهِ والعشق، لاتعدلُ الغرائبَ التي لقِيَتنا بينَ دروبِ زمنِنا المرّ. دعني أقصُّ عليكَ بعضاً منها، والأحبّةُ جميعاً يعرفونَها بل يعيشونها حدثاً حدثاً ونبضاً نبضاً .
هاهو القمرُ قدْ غطّتْ وجهَه الهمومُ، لأنّه يعلم تماماً عمّاذا أتحدّث، فقد التقى بأحزانِ الساهرينَ على شموعِ العذاب والمعاناة ومازالَ أنيسَهمْ، يا قيس ! غرائبُ زمننا أغــربُ .. :
أوطانٌ ترزحُ تحتَ نيْرِ العذاب، تمّزقُها سياطُ الدموعِ والأوجاع والأمراض والأََسْـر، وأبناؤها اتخذوا مِنْ خيامِ الصّبرِ بيوتاً ومِنَ الأرضِ الطاهرةِ ترياقاً يضمّدُ قلوبَهمْ المكسورة ..ماذا بوسعي أن أقولَ لك ! وأشياء أخرى تجثمُ على أنفاسنا فتجتثُّها عنْ دابرِها، ولولا رحمةُ اللـهِ لقضيْنا منذ زمنٍ بعيد ..مازلنا نأملُ في غدٍ يحملُ إلينا سِلالَ الوردِ والنّارنـج، يحطّمُ قيودَ الأسْر ويفتحُ لنا الفضاءاتِ الخضراء لنحلّقَ على أجنحـةِ الفرحـة كما كنّا من قبـلُ .. ألاَ ليتَ الأمانَ يعودُ يوماً !!
وقاطعـه درهم جبّاري قائلاً :
- آهٍ يا قيسُ ! لن يكفينا الزمنُ كيْ نقصَّ عليكَ كلّ ما حدثَ وما يحدث ..إنه العذابُ يُختَزَلُ في كلمتيـْن : الوطنُ ينـزف ! المبادئُ تنزف، القيمُ الجميلـةُ تنزف .. واللغـةُ العربية لغتنا الحبيبةُ تنـزفُ أكثـر!! ولولا قبيلـتُنا : "رابطة الواحة الثقافية" وأبناؤها من الأباة الكُماة المخلصينَ، لاحتُضِرَتْ لغةُ الضّاد واحتُضِرَتْ معها أزمنةُ الأمجاد والغدِ الأجمـل الذي تنتظره وننتظره كُلُّـنا بشغف .
تنهّدَ قيسُ بن الملوّح وهوَ ينظر باستغرابٍ إلى خليل ودرهم تارةً، وإلى الأحبّة تاراتٍ أخرى، وأطرقَ يلعبُ بذرّاتِ الرّمل التي أخرسَها هي الأخرى مُرُّ الزمن .
ظلَّ الصمتُ يقفزُ منْ قلبٍ لآخرَ، وكأنّـهُ يسقينا منْ شرابِه المُحلّـى بالدهشة، حتّى قصَّتْ جناحيْـهِ نسيبة بنت كعب :
- يا قومُ ! لاتفقدوا الأمـلَ في غدٍ أحلـى ! انظروا إلى قلوبكمْ المفعمـة بالربيع، يحفُّ أنهارَهـا الماءُ الزلالُ والإشراقُ وقوسُ قزح. إنْ كانَ زمنُنا المرُّ قد اغتالَ أحلامَنا وسبى أكثرَ آمالِنا إشراقاً، فلاتنسوا بأنّ الزمنَ الجميلَ سيستعيدُ لنا كلَّ ماضاعَ واغْتيـلَ، أو على الأقلّ سيعيدُ إلى خطوِنا نضارتَـهُ وابتسامتَه البريئة ..ابتسموا كيْ يبتسمَ الأمـلُ والحلـمُ من جديد! ألاَ ترونَ أنَّ وجودَنا مجتمعينَ تحتَ سماءِ المحبّةِ أكبَرُ دليلٍ على اقترابِ النّورِ منّا ؟؟
وأخرجَتْ سحر الليالي وريقاتٍ وريشةً وأصباغاً، والبسمةُ جالسةٌ القرفصاءَ على ملامحِها تشاركها لحظـةَ الإلهـام، اقتربتْ منها ندى الصبّار تسألها:
- سترسمينَ وجـهَ القمر ؟
فأجابتْها سحر بابتسامةٍ جذلـى:
- بل سأرسمُ فراشةَ المحبّـة وهي تحطُّ على وجوهِ أحبّتنا، تزرعُ بها الأمل وترشفُ رحيقَ الصبر ..تعلمون ؟؟ أحسّ ُبأنَّ المسافاتِ تُطوَى والآلامُ تذوي، صدْقاً أستشعِرُ قربَ وصولِنا إلى قبيلةِ بني عامرٍ ، وليلـى واقفةٌ بالمضاربِ تترقّبُ وصولَ حبيبِها وبيديـهِ باقاتُ السعادةِ، آملـةً تحطيـمَ أغلالِ الشقـاء..
وبينـما انهمكتْ سحر في نسجِ ثوبِ الأمـل الجميل، كانَ نزار ب. الزين وسعيد أبو نعسة يدوّنان ِكلَّ ما حدث معنا بالطريق منذُ انطلاقِ قافلـتنا حتّى الساعـة بدفترِ مذكرّاتهما، أمّا الصباحُ فكانَ جالساً قربَ قيسٍ يستمعُ إلى أشعارهِ عنْ ليلـى :
رُعَاة َ اللَّيْلِ ما فعلَ الصَّباحُ
وما فَعَلَتْ أوَائِلُهُ الْمِلاَحُ
وما بالُ الَّذِينَ سَبَوْا فُؤادي
أقاموا أم أجد بهم رواح
وما بَالُ النُّجُومِ معَلَّقَاتُ
بِقلْبِ الصَّبِّ ليس لها بَرَاحُ
لها فَرْخانِ قد تُرِكَا بِقَفْرٍ
وعشهما تصفقه الرياح
إذا سمعا هبوب الريح هبا
وقالا أُمّنا، تَأْتِي الرُّواحُ
فلا بالليل نالت ما ترجى
ولا في الصُّبحِ كان لها بَرَاحُ 1
وبجانبـهما محمد ابراهيم الحريري، يكفكفُ دمعَ قيـسٍ بحروفِـه مُنشداً :
قيس لا الجني مثلـي
احمل الفكـر بثكـل
انظر الأسماء جافـت
حب ليـلاي بجهـل
أسرع الخطـو فإنـي
مال نحو الضيم رحلي
في مفـازات أراهـا
تسكب الفكـر بمهـل
أجرع الضيم بصبـر
وكؤوس الهجر خلي 2
واستَلَّ النعاسُ سيفَـهُ ليشهره علينا جميعاً، بينما تعهّدَ القمرُ برعايةِ أحلامِنا وحمايتِها مِنْ سارقيـها . وحدَهُ ابراهيم سعد الدين ظلَّ لحيظاتٍ يناجي النجومَ قبلَ رحيلـها، ويُحيّي قيساً بقصيده، قبلَ أنْ يقعَ هذا الأخيـرُ بين براثنِ الرُّقاد :
يقول العاقلون: أجٌنَّ قَيْسُ
أما يدري مآلَ السّابقينا..؟!
أيَعْشِقُ والهوى ـ إن دارَ ـ كأسٌ
شَرِبْنا من قَذاهُ وما سُقينا..؟!
أقولُ: مُنيتُ من أحْداقِ ليلى
بجَنّاتٍ دَنَتْ للمُتَّقينـــــــــــا
أينْزِلُ عاقِلٌ بِديارِ ليلــى
ويَبْرأُ من جنونِ العاشقينا..؟! 3
تُحَدّثني عيونُ اللّيْلِ عنها
وألقاها بكُل فَمٍ خصيــــبِ
وإنْ سَحّتْ دموعُ المُزْنِ يوْماً
يفيضُ القلبُ بالدّمعِ الصّبيبِ
أشُمُّ عبيرَها في كُلِّ رَوْضٍ
وأنْشِقُ ريحها من كُلّ طيبِ 3
وأُسْقىَ ريقَهَا ـ إنْ بلَّ صُبْحٌ
شِفاهَ الوَرْدِ ـ معْسولَ الرّحيقِ
ولسْتُ مؤمِّلاً فيها بلُقْيـا
ولا سُقْيا تبُلُّ فَمَ المَشوقِ
ولكنّي عَشِقْتُ وعِشْقُ ليلى
دَمٌ يسْري ويَنْبضُ بالعروقِِ 3
وفجـأةً أطلّـتْ زاهيـة وجيوشُ الخوفِ تحاصرُهـا :
- أحبّتي، ألمْ تروا عادل العاني ؟؟؟ لمْ يجدهُ محمد ابراهيم الحريري بخيمتـه ! ألمْ يرهُ أحدٌ منكـمْ ؟؟؟ لقد اختفـى !!
------ يُتبَـعُ بإذن اللـه -------
-------------------------
1- من شعر قيس بن الملوّح
2- من شعر محمد ابراهيم الحريري
3- من شعر ابراهيم سعد الدين