أسْرَعْنـا الخطوَ والبسمةُ تؤثّتُ لعالمِها فينا، كنّا نأملُ في دخولِ القبيلةِ ليلاً كيْ نأمنَ عيونَهمْ، لكّنّنا لم نستطعْ التسلّلَ إليْهـا وحُرّاسُها منتشرونَ حولَ المضاربِ كانتشار النّار في الحطب، يحرسونَ حتّى همسَ الرّقادِ من التسلّلِ إلى جفونهمْ المطرّزة بالحذر.
وبالرغم من ذلك، ظلّ الأمـلُ حارسَنا الأمين، يخفّف عنّـا ويُهدينـا السكينةَ، يحاربُ من أجلنا الخوفَ الذي عاثَ بحدائق الأمَان المزروعة بالقلب. واقتربْنـا أكثرَ حينَ انشغلَ الحرّاسُ بتجاذب أطراف الحديث، نتأبّطُ ذراعَ الليـلِ الجسورِ لكنّه غدرَ بـنا واختفـى ! وكأنه صارَ حليفـاً للقبيلـةِ بعدَ أَنْ كانَ لنا نصيراً، تاركاً لنـا بواباتِ الفجـرِ مُشرعَةً، تكادُ تُفنيهـا وتُفنينا الدهشـةُ ..
وما هي إلاّ لُحيْظـاتٌ حتّى وجدْنا أنفسنا مُحاصَرينَ برجالٍ لاقِبـَلَ لنا بهمْ، ونحنُ عُزَّلٌ إلاَّ مِنَ حروفـنا ونبضاتِ الحبّ التي تخفقُ بصدورنا، هاجمونا منْ كلِّ حدبٍ وصوب، وقيّدوا أيدينا والشررُ يتطايرُ من عيونهمْ. لاأدري كيفَ فطِنوا بنا ؟؟ أَلِأنّهُمْ اقتفواْ آثارَنـا منذ مغادرتنا للواحـة ؟؟ أمْ أنّهمْ كانوا يتربّصونَ بنـا كما يتربّصُ الموتُ ؟؟ أمْ أنّـهاَ دقّـاتُ ساعاتِ الخوف مَنْ وَشتْ بِنـا؟؟؟
ودخلنا القبيلـةَ والدهشةُ تعقـِدُ ألسنتَنا وأرواحَنا، كانَ أبناؤها من رجالٍ ونساءٍ يحدّقونَ فينا والخوفُ يرقُبُهمْ ويرقُبُنـا مِنْ قريبٍ ومن بعيدٍ متهكِّمـاً، وكنتُ أتجاهلُ نظراتِه النجلاءَ، أملاً في العثورِ على ليلى بين القوم لأهزِمَـه، أتنزّهُ بناظرَيَّ خلسـةً علِّي أراها معهمْ، فأخبرها بأنّنا وهبنا حياتنا طعاماً للمجهولِ، في سبيلِ سعادتها وسعادةِ قيسها، لكنْ هيهاتَ ! لمْ يكنْ بينهمْ غيرُ طيفِها! وهنا مزّقَ محمد ابراهيم الحريري الصّمتَ، يغرّدُ على ضفافِه الأمـلُ في خروجِ ليلـى مِنْ مخبئـها القسري:
إني رأيتكِ بيـن الغيـد بالخيـم
لـم تكتـرث بنـداء رقَّ للقلـم1
بينما ظلّتْ نظراتُ قيسٍ مُنهَكـةً مشرّدةً بينَ الشوقِ والمحبّـة، صريعةَ العذابِ والنوى، سقَطَتْ منه كما سقطتْ روحهُ خوفاً على ليلاهُ، وكأنهُ موقنٌ بأنّ القبيلـةَ لن تسمحَ بلقـاءِ المحبّيـن :
أنِيري مَكانَ البَدْرِ إنْ أفَلَ البَدْرُ
وَقومِي مَقَامَ الشَّمسِ ما اسْتَأخَرَ الفَجْرُ
ففيك من الشمس المنيرة ضوؤها
وَلَيْس لهَا مِنْكِ التّبَسُّمُ وَالثَّغْرُ
بلى لَكِ نُورُ الشَّمْسِ والبَدْرُ كُلُّهُ
ولا حملت عينيك شمس ولا بدر 2
أمّـا عصام الديك الذي لحقَ بقافلـتنا منذْ يومٍ، وهو يحملُ الحرفَ سلاحاً والمحبّة للواحـةِ وأهلها قيثارةً، فقد استرسـلَ منشداً:
يا هاجر الروح من للروح يحييها
ومن لقلب هوى ينعى تواليهـا
ومن لحب بدن الراح أسكبه
تروي شمائله ملهى أوانيها
ومن لجفن أمام البعد ذي مقــة
يندى ويشرد للآفاق يحصيهـا
إني بواقي الألى ما زلت أرقبهـا
في الشعر ممكنة ما اعتدت أخفيها
منفاي ليلـى فإن ألفيتني طلــلا
يرنو إلى شبـه هيهـات يحكيها 3
كنّا كالتائهينَ نبحثُ عنْ ليلـى بالحرفِ والعينِ والقلب، ومضيتُ أحدّقُ في ما تناثَرَ من خيامٍ هنا وهناك، أتذكّّرُ عهداً عفا ودرسَتْ ذكرياتُـهُ إلاّ بذاكرتي .
كانتِ الخيامُ مُوَزّعـةً بأرضِ القبيلـةِ كلوحـةٍ فرَّتْ منها الألـوان، تساءلتُ أينَ خيمةُ ليلـى؟؟ وأينَ الخيمةُ التي يحبسونَ فيها عادل العاني ؟؟ وأينَ خيمةُ أهلي الذين فارقتُهمْ منذُ ذاعَ شعري ونثري بينَ القبائلِ، فأُهدِرَ دمي؟؟ ماذا حلَّ بهمْ بعدَ فراقنـا؟؟ كمْ أحـنُّ لمعانقةِ ذكرياتي هنا !!
والبئرُ التي شهِدَتْ طفولتي وأيامَ الصّبا وعهدَ البسماتِ والضحكاتِ ؟؟؟ شهدتْ ترعرعَ قصةِ الحبّ البريئة التي اغتالوها، واغتالوا معها كلَّ مسافاتِ اللقـاء ؟؟ وصديقاتي اللواتي كنّ يُمطرْنَني كلّ صباحٍ بحكاياهنَّ العذبة كقلوبهنّ، ماذا صنعَ الزمانُ بهنّ ؟؟
أينَ الجدّةُ التي دافعَتْ عنّي يومَ توعّدوني بالعقاب ؟؟ أينَ هي؟؟ هل مازالتِ الحياةُ تخفقُ بينَ ضلوعِـها أمْ أنها قضَتْ حزناً وكمَداً ؟؟؟ آهٍ كمْ تحرقني الذكرى وتلبسني المرارة !!
شعرتُ بأناملِ عبلـة محمد زقزوق الرقيقـة تربّتُ على كتفي، والدموعُ تطلُّ عليّ من وراء حجاب :
- اصبري، كنّـا نعلمُ بأنّ هذا قدْ يحدثُ، لكنّ الإيمانَ بأرحمِ الراحميـنَ لنْ يخبو أبداً، هو شرابُنا وسلاحُنا وقوتُنا وزادُنا أيضاً ..سترينَ بإذن اللـه أنَّ رحمـةَ الرحمنِ قريبٌ مِنْ عبادهِ ..
لكـنْ ! لاأدري لماذا أخذتْ خيمةٌ متراميةُ الأسرارِ بمجامعِ قلبي، أحسستُ بأنّ تلكَ الخيمةَ تحبسُ بينَ أنفاسِها ليلـى: صديقةَ طفولتي والعاشقةَ التي ظلمها التاريخ أوْ ظلمتْها الظروفُ والزمنُ الذي يشبِـهُ زمنَنا هذا ! كأنّني أراها واقفةً خلفَ الستارِ ترمقني وأحبّتي، وقلبُها يكادُ يصرخُ بينَ جوانحِها. آهٍ ليلى ! ليتكِ تكسّرينَ حواجزَ الصمتِ كيْ تُثلجي صدورَنا المرهقَـةَ بعذابكِ! أتُراني سألقى نفسَ مصيرِكِ؟ أمْ أنّ الثَّرى سيكونُ مثوايَ القادمَ ونهايةً لمُرِّ الجراح ؟؟؟
لستُ وجلةً البتّة، وهلْ يخافُ الموتَ مَنْ لمْ يقترفْ ذنباً ولا جريرة ؟؟؟ إنْ كانَ الحبُّ العفيفُ في شِرْعَة قبيلتنا ذنباً يستحقُّ الموتَ، فأهلاً بالموتِ وفاءً لمَنْ أحببـتُ، لكنّني ياربّ أسألكَ بكل أسمائكَ الحسنى أنْ تحمي أحبّتي من مكر القبيلةِ وغدرها، احمِهمْ وأنقِذْ ليلى وقيساً مِنْ أغلالِ العذاب يا أرحم الراحمين !
واقتادنـا حارسانِ من حرّاسِ مضاربِ بني عامرٍ إلى خيمةٍ كانتْ تتوسّطُ ساحـةَ القبيلـة، كنتُ أراهما قبلَ دخولـنا يرفعانِ ستارَ الخيمـة، وكأنهما يُعِدّانِ لحفـلِ الموت على مهلٍ .
بينـما كانَ يتهجّـى تقاسيمَنا فارسٌ من الفرسانِ، وهو يمضي بناقتِـه متثاقلاً يجرّ سَبَايَـا الأسئلـة والاتهامات، والغضبُ مُهراقٌ من مقليتيْه كقطرات المطر . لاأدري لماذا أحسستُ بأنّه وردٌ بن محمد زوج ليلـى ، وبأنّنا سنكونُ قريبـاً في حوارٍ مفتوحٍ معَ المجهــول .
------ يُتبَـع بإذن اللـه ----------
-------------------------
1- من شعر محمد ابراهيم الحريري
2- من شعر قيس بن الملوّح
3- من شعر عصام الديك