القلب
جَرَفَ مروانَ تَيَّارٌ شدِيدٌ مِنَ الدَّمِ يَندفِعُ بقَّوةٍ غيرِ عاديَّةٍ ويَهْوِي إلى مَكانٍ بعِيدٍ غيرَ مَرْئِي .. بَدَا المكانُ أَحمرَ قَاتمَ اللَّونِ.. تلفَّتَ مروانُ حولَهُ فَوجدَ كَائِناتٍ عِملاقةً تَتجهُ نحوَه شَاهِرةً سُيوفَها..
ففزِعَ مروانُ وصَاحَ : يا إلهي مَا هذا ؟!
جاءَهُ صوتٌ شديدٌ قويٌ : مَنْ أنتَ ؟
ارتَبَكَ مروانُ ولَمْ يسْتَطِع الرَّدَ ، فقالَ الصوْتُ مُحذِّراً : أَجِبْ و إلا دمَّرْناكَ..
قَالَ مروانُ بِصَوتٍ مُتردِّدٍ مُتقطِّعٍ : أَنَا مروانُ .. مَنْ أَنتُم؟
فَأجَابَهُ الصوتُ القَويُّ : نحنُ القُوَّاتُ المُدافِعةُ عَنْ هَذا الجِسمِ ، إننا كُرَاتُ الدَّمِ البَيْضَاءُ .. وأَنتَ يا مَروانُ ماذا تُريدُ؟
قَالَ مروانُ : أُريدُ التَّعَرُّفَ عَلَى القَلْبِ.
قالَ الصوتُ بعدَ تَفكيٍر : حَسناً.. سنَصْحبُكَ يَا مروانُ في زِيارَةٍ للْقَلْبِ.. وأنا أُدْعى " مُساعِدًا " .. واتْبَعْنِي ..
قَالَ مروانُ : حَسناً .. يا مُسَاعِدُ ..
تَقدَّمَ مُساعدٌ.. ومروانُ يسيرُ خَلفَه.. يَتلفَّتُ في كلِّ اتِّجاهٍ حولَه حتى وجَدَ سَهمًا يُشيرُ إلى كَلمَةِ : القَلْبِ.. فانحرفَ مُساعدٌ وانحرفَ تبعاً لَهُ مروانُ في اتجاهِ السَّهْمِ ..
قال مروانُ : أينَ نحنُ الآنَ ؟
قالَ مساعدٌ : نحنُ الآنَ في طريقِنا إلى القَلْبِ .. ونَمُرُّ عبرَ الوريدِ.. لِذَا ستَجُدُ الدَّمَ في هَذا المجرَى أَحْمرَ قَاتمَ اللَّونِ يكادُ يكونُ بُنيًّا؛ لأنَّهُ مُحَمَّلٌ بفَضَلاتِ الخَلايا ، وثَاني أُكسيدِ الكَرْبونِ.
قَال مروانُ : ولكِن أَلا يحْملُ الدَّمُ الغِذاءَ أيضًا للخَلايا؟
أَجابَ مُساعدٌ : بَلَى، فالدَّمُ الوَارِدُ مِن الأَمعاءِ نحوَ القَلبِ يَكونُ مُحَمَّلاً بِالموادِ الغِذَائيةِ التي تَمَّ امتِصَاصُها في الأَمْعاءِ والتي ستُوزَّعُ على أعْضاءِ الجِسْمِ..
تَساءَل مروانُ مُتعجِّباً : ومَاذا يَصْنعُ القَلْبُ في هَذا الدَّمِ؟!
رَدَّ مُساعدٌ مُهدِّئاً مِنْ رَوْعِ مروانَ : ستَرى بنفسِك عندَما نَدْخلُ القلبَ.
قالَ مروانُ سعيداً مَسْروراً : هلْ سندخُلُ القلبَ؟
أَجابَ مُساعدٌ : نعَم.. فمادُمْنَا في هذا الاتِّجَاه فنحنُ نتَّجهُ نحوَ القلبِ مُباشرةً .. وبعدَ قليلٍ ستجدُ نفسَكَ في جوْفِ القلبِ فالْزَم الصَّمْتَ..
لَزِمَ مروانُ الصَّمتَ حتَّى صَاحَ مُساعِدٌ فجأَةً : فَلْيَسْتَعِدّ الجميعُ لِدُخولِ القلبِ بعْدَ ثوانٍ مَعدودَةٍ ..
أَخَذَ الدَّمُ يندفعُ بقُوَّةٍ غيرِ عاديَّةٍ وأخذَ مروانُ يَتْبَعُ مُساعداً وزملاءَهُ ، وهُمْ يَدخلُونَ مِنْ وَرِيدٍ إلى وريدٍ في اتجاهِ القلبِ .. وكُلَّمَا خرجُوا مِنْ وريدٍ دخَلُوا وريدًا أَكبَرَ وأكثرَ اتِّسَاعًا ، حتى لاحتْ من بَعِيدٍ بوابةٌ ضخمةٌ مَكْتُوبٌ عَلَيْهَا "الوَرِيدُ الأَجْوَفُ العُلْوِيُّ" و أُخْرَى مكتوبٌ عليهَا "الوريدُ الأَجْوَفُ السُّفْلِيُّ".
فَقَالَ مروانُ : مِنْ أَيِّ واحدةٍ سنَدْخُلُ ؟
قال مُساعدٌ : سندْخلُ مِنْ بَوابةِ الوَرِيدِ الأَجْوَفِ السُّفْلِيِّ؛ التي تَسْتَقْبِلُ الدَّمَ مِن البطْنِ والأطرافِ السُّفْلَى مِنَ الجِسْمِ.. أما بَوَابةُ الوَريدِ الأَجْوَفِ العُلْوِيِّ فَهِيَ تستقبلُ الدَّمَ مِن الرأْسِ والصدرِ والأطرافِ العُلْيَا مِنَ الجِسْمِ .. ولا دَاعيَ لدُخُولِها الآنَ فما يحدثُ هُنا يحدُثُ هُناكَ..
دخلَ مروانُ خلفَ مُساعدٍ .. فوجَدَ أنَّ الدَّمَ يهبِطُ فَوْقَهُ مثْلَ شلالٍ ضخمٍ ويُغَطِّى كُلَّ شيءٍ بلونِهِ الأَحْمَرِ القَاتِمِ ، وأظلَمَت الدُّنْيا أمامَ مروانُ فصرخَ قائِلاً : يا مساعدُ أيْنَ أنا؟
فأجابَهُ مساعدٌ : لا تَقْلَقْ يا مروانُ فنحنُ مَعَكَ ولَنْ نَتْرُكَكَ..
اطْمَأَنَّ مروانُ .. ودَقَّقَ النَّظَرَ فيما يَحُوطُ بِهِ ، فوجدَ الأُذينَ الأيمنَ يمتَلِئُ بالدَّمِ شَيئًا فشَيئًا ومازَالَ الدَّمُ يهْبِطُ مِن كُلِّ مكانٍ بقوةٍ شديدةٍ ، حَتَّى امتَلأَ الأُذينُ عنْ آخِرِه تمامًا ؛ ثُمَّ دَوَّى صوتٌ عنيفٌ في أَرْجَاءِ الأُذينِ الأيمنِ أَفْزعَ مروانَ.
قالَ مُساعدٌ : لا تقلقْ فَهَذا صوتُ الصِّمامِ .. يُفْتَحُ حتى يمرَّ الدَّمُ إلى البُطَيْنِ الأَيْمَنِ وهُو يسْمحُ بمرورِ الدَّمِ في اتجاهٍ واحدٍ ولا يسمَحُ برجُوعِهِ في عكسِ اتجاهِهِ أبَدًا..
بَدَأَتْ عمليةُ تَفْرِيغِ الدَّمِ مِنَ الأُذَيْنِ الأَيْمنِ إلى البُطَيْنِ الأَيْمَنِ فاتَّجَهَ الدَّمُ في تَيَّارٍ جارفٍ مارًّا بالصِّمامِ إلى غُرفَةٍ أكْبرَ وأَرْحَبَ حيثُ يتجمعُ فيها كُلُّ الدَّمِ القاتِم اللَّوْنِ ، وظَلَّ الدَّمُ يهبطُ فوْقَ مروانَ ومساعدٍ وجميعِ قواتِ الأَمْنِ المُصَاحبةِ حتَّى امتلأَ البُطَيْنُ عَنْ آخرِهِ بالدَّمِ ، ثُمَّ انْغَلَقَ الصِّمامُ مُحْدِثًا دويًّا أشدَّ مِنَ الذِي أحدثَهُ عند فتْحِهِ.
صاحَ مساعدٌ: احترِسْ يا مروانُ فسَنَنْدَفعُ الآنَ بقوةٍ هائلةٍ إلى الرِّئَةِ ..
وما كادَ يُتِمُّ كَلامَهُ حتى انْقَبَضَ البُطَيْنُ الأيمنُ فجأةً فانْدَفَعَ الدَّمُ بِقُوَّةٍ عَبْر الشُّرْيانِ الرِّئَوِيِّ نحوَ الرِّئتيْنِ ، فلاحظَ مروانُ أنَّ هُنَاك فَرْعَيْنِ لهذا الشُّرْيانِ وقَدْ عُلِّقَتْ عندَ نُقطةِ التَّفرعِ لافِتَتَانِ إِحْدَاهما تشيرُ إلى الرِّئَةِ اليُمْنَى والأُخرَى تُشيرُ إلى الرِّئةِ اليُسْرَى .. فاتَّجَهَ مروانُ إلى الرِّئَةِ اليُسْرَى خَلْفَ مساعدٍ..
أَخَذَ مروانُ يتأملُ مَا يحدثُ حولَـُه من عمليةِ تبادلٍ للغازاتِ.. حَيثُ أَخَذَ الدَّمُ يدورُ حوْلَ الحُوَيْصِلاتِ الهوائيةِ في الرَّئةِ فيُلْقِي فيها ما يحملُهُ مِنْ ثاني أُكسيدِ الكربونِ وتُعْطِيه الحُوَيْصِلاتُ ما تَزْخَرُ به من الأُكسِجِين.. ودارَ الدَّمُ دَوْرَةً سريعةً في الرِّئةِ.. تخلَّصَ خِلالها مِنْ ثَاني أُكسيدِ الكَرْبون وتَزَوَّدَ بالأُكْسِجِين حتى أصبحَ أَحْمرَ صافِيَ اللَّونِ؛ فعادَ سَرِيعًا قبْلَ أنْ يفْقِدَ كَمِّيةَ الأُكسُجين .. وسَلَكَ طريقًا مَكْتُوبًا عليهِ الوَرِيدُ الرِّئَوِيُّ ثمَّ القلبُ.
قالَ مروانُ : هَلْ سنَرْجِعُ للقلبِ ثانيةً؟
أَجَابَ مساعدُ : نعمْ ، فنحنُ نتَّجِهُ نحوَ القَلْبِ عَبْرَ الوَرِيدِ الرِّئَوِيِّ وهُنَاكَ سنهبطُ في الأُذَيْنِ الأَيْسرِ وسنمرُّ عبرَ صِمَامٍ نحوَ البُطَينِ الأَيْسرِ.. حيثُ سننطلِقُ نحوَ خَلايا الجِسْمِ المُختلفةِ ..
اجتمعَ الدَّمُ في الأُذينِ الأيْسرِ ثُمَّ فُتِحَ الصِّمَامُ فهبَطَ الدَّمُ نحوَ البُطَيْنِ الأَيْسرِ الَّذي يُعَدُّ أكْبرُ غُرَفِ القَلْبِ الأَرْبَعَةِ.. ثُمَّ أُغلِقَ الصِّمامُ فامتَلأَ البُطينُ عَن آخِرِهِ بالدِّمَاءِ ..
وفجأةً انقبضَ البُطَيْنُ الأَيْسَرُ انقباضَةً قويةً ، فاندَفَعَ الدَّمُ انْدفَاعَةً صارُوخِيةً عَبْرَ شُرْيَانٍ استَطَاعَ مروانُ أنْ يَقْرَأَ اسْمَهُ رغْمَ السُّرْعَةِ الهائلةِ التي انْدفَعَ بها فَإِذا هُوَ : الشُّرْيَانُ الأَوُرْطِيُّ.. لاحَظَ مروانُ أَنَّ الشُّرْيانَ الأَوُرْطِيَّ كَبِيرُ الحَجْمِ سميكُ الجدرانِ ينقَبضُ هُو نفْسُهُ مما جَعَلَ اندفاعَ الدَّمِ سَرِيعًا مُستمرًّا في كُلِّ اتجاهٍ.. كَمَا أنهُ يتفرعُ تفريعاتٍ عديدةٍ.. وكُلُّ فرعٍ يتفرَّعُ إلى فروعٍ أصغرَ وأَدَقَّ حَجْمَاً حتى يصلَ حَجْمُهُ إلى أنابيبَ يُطلقُ عليها "الشُّعيراتُ الدَّمَوِيَّةُ" التي تصلُ إلى كُلِّ خليةٍ مِنْ خلايا الجِسْمِ فتُزَودُها بالغِذَاءِ وتخلِّصُها مِنْ ثَاني أُكسيدِ الكربونِ والفضلاتِ ..
قالَ مَرْوانُ: إلى أيْنَ نسيُر الآنَ ؟
قَالَ مُساعدُ : نحنُ ننطلقُ إلى كُلِّ خَلايا الجِسْمِ .. فهَذَا الدَّمُ يَجِبُ أنْ يمرَّ على كُلِّ خليةٍ مِنَ خلايا الجِسْمِ ليزوِّدَها بالأُكْسجين والغِذَاءِ ويحملُ عنها الفَضَلاتِ وثاني أُكسيدِ الكربُون ويَعُودُ بِهِ إلى القلبِ لتبدأَ الدَّوْرةُ مِن جديدٍ.
قالَ مروانُ : ولكنْ مَا الذي يُغَذِّي القلبَ؟
قالَ مُساعدٌ : يُغذِّيه الشَّرايينِ التَّاجِيَّةِ.. وهَيِ شَرايِينٌ صغيرةٌ مُتفرِّعةٌ مِنَ الأَوُرْطِيِّ تعودُ لعضلَةِ القلبِ بالغِذَاءِ حتى يستمرَّ في أَدَاءِ مَهَمَّتِهِ الشَّاقَةِ ..
قالَ مروانُ : ومَا الذي يحملُ الغذاءَ للجسمِ في الدَّمِ؟
رَدَّ مساعدٌ : البِلازْمَا ..
تساءَلَ مروانُ مُتعجباً : ولكن ما دَوْرُ كراتِ الدَّمِ الحَمْرَاءِ إِذَنْ؟
أَجَابَ مُساعدُ بهدوءٍ : هي المسْئولةُ عنْ نقلِ الأُكسجين إلى الخَلايا وَحَمْلِ ثاني أُكسيدِ الكربون منْها إلى الخارجِ خِلالَ عمليةِ الزَّفيرِ.
قالَ مروانُ : وكم مرَّةٍ يفعلُ القلبُ ذلكَ كُلَّهُ؟*!
قالَ مُساعدُ ضاحكاً : يفعلُ ذلكَ 60-80 مرةً في الدَّقِيقةِ الوَّاحِدةِ!!
صَاحَ مروانُ : هذا شيءٌ لا يُصدَّقُ .. سُبْحَانَ اللهِ ..
قاطعَ مروانَ صوتُ إنذارٍ دَوَّى في أرجَاءِ الجسمِ المختلفةِ، لقدْ تعرَّضَ الجسمُ لهُجُومٍ منْ أحدِ الميكرُوباتِ..
قالَ مُساعدُ : معذرةً يا مروانُ فأنا مُضْطَرٌّ لِتَرْكِكَ الآنَ سأَذهبُ أنا وجُنودِي لِمُواجَهَةِ هذا الأَمرِ.
قالَ مروانُ : سأَذهبُ مَعَكُم لأعاوِنَكُمْ.
فقالَ مُساعدٌ : حَسنًا.. تعالَ معنَا يا مروانُ لترَى المَعركةَ بنفسِكَ..
** استيقظْ يا مروانُ ، استيقظْ فقدْ حانَ وقتُ الذِّهابِ إلى المَدرسَةِ.
فَتَحَ مروانُ عينَيْهِ فوجَدَ نفسَهُ في سريرِهِ وأُمُّهُ تَنظُرُ إِليهِ بَاسِمَةً و تساعدُهُ على النُّهُوضِ فقالَ وهُوَ يَنزلُ عن سريرِهِ : فلْيُسَاعِدْكَ اللهُ يا مُساعدُ ..
أيمن شمس الدين