كانَ لابدَّ مِنَ التحدّث إلى ليلـى، حتّى وإن عرّضتُ حياتي للخطر ..أرى النّوقَ ترعى في أرضِ القبيلـةِ آمنـةً مطمَئِنّـة، لايشوبُ خطوَها وجـعٌ، بينما يتّقِدُ بقلبي وبقلب قيسٍ وليلاه وجعٌ أكبرُ وأعظـم..
أمْ أنكِ أنتِ أيضاً أيتُها النّوقُ، تبحثينَ عن الأمانِ الذي اغتيلَ فيـكِ، تبحثينَ عنِ أحلامكِ التي سُرِقَتْ منكِ جهاراً، تبحثينَ عنْ ترياقٍ تداوينَ به قلبَ العاشقيْـنِ المعذّبَيْن وقلبي ؟؟؟
كانَت الشمسُ تراقبني عن كثبٍ، حتّى خِلتُ أنّها عينٌ من عيونِ القبيلـة، تنتظرُ الفرصةَ السانحةَ كيْ تخبرَ القومَ بما أُزمِعُ عليه. لكنّني مطمَئِنّةٌ، أتمسّكُ بأهدابِ رحمةِ ربّي، فهوَ مَنْ سيُخرِسُ صوتَها حالَما ترحل إلى بيتها مساءً، وهي تتأبّطُ الخيبـة ..كمْ أحنُّ إلى مناجاةِ القمـر والنجوم !
وبينما أنا أتفقّدُ المكانَ مِنْ حولي، لمحتُ رجلاً من رجال القبيلة خارجَ خيمته الصغيرة المنصوبة، ينظرُ إليّ من بعيدٍ وكأنّه يُخفي حروفاً أصَرّتْ على الولادة . اقتربتُ منـه والحذرُ قنديلٌ أشعلْتُـهُ بصدري، خشيةَ أنْ يفضحَني الفضول.
سألتُـه :
- سيدي، هلْ تذكرني ؟؟ تعرفني ؟؟ أراكَ تحدٌُّقُ فيّ مذْ خرجتُ وأحبّتي من خيمةِ شيخ القبيلـة .
نظرَ إليّ طويلاً وكأنّه يتخلّصُ مِنْ صمتِه المرّ أو من خوفه الراقد بأعماقه، ونظرَ حولـهُ هنا وهناك، والعرقُ يتصبّبُ مِنْ جبينـه خوفاً، ثمّ قال :
- نعم .. أذكركِ ..أنتِ مَنْ هرَبَ ليلـة زواج ليلى، أنتِ مَنْ أهدروا دمها لأنها تغنّتْ بعشقها شعراً ونثراً.. وهلْ ينسى أحدُنا تلكَ الأيام والمآسي ؟؟ مازلنا نذرفُ الدمعَ والحسراتِ على ماكانَ بلْ .. وعلى ما قدْ يكون .
وأطرَقَ، والأحزنُ تسقطُ مِنْ ملامحِـه تتْـرى واسترسلَ قائلاً :
- وكأنّي بأسئلةٍ تختلجُ في جوانحك، تريدين السؤالَ عنْ أهلكِ أمْ عنْ ليلـى رفيقةِ عمركِ أمْ عن أمرٍ آخـرَ؟؟؟
كانتْ حروفُه إبراً غرسها في قلبي المكلوم، فنزفَ دماً بينَ يديّ .
مُذْ دخلنا القبيلةَ وأنا أقاومُ أشواقي لأهلي الذينَ لمْ أرَهمْ مذْ سنينَ، أتناسى لوعتي خوفاً مِنْ أخبارٍ تقضُّ مضجعي وتغتالُ هدْأَتي . هلْ مازالوا أحياءً أمْ أنّ أجسادَهمْ الطاهرةَ قدْ واراها الثَّرى؟؟ هلْ ظلَّـتْ أرواحهمْ معذَّبَـةً بغيابي حتّى ذوَتْ !؟؟ لمْ أجرؤْ على سؤالِ أحدِهمْ، خوفاً مِنْ غصّةٍ تستعمرُ كبدي فتُفنيني، لكنْ..كيفَ الهروبُ من القدَر ؟؟؟ باتَ لزاماً عليّ أنْ أواجـهَ الحقيقـة، فعاجلاً أمْ آجلاً سأنتصرُ على صمتي لأسقطَ صريعةَ الشوق والحنيـن .
لقدْ فتّـحَ هذا الرجلُ جراحاً بذلتُ جهدي لتهدئتِها، وحرّكَ أشواقاً دثّرتُها بالمُزنِ كيْ تهدأ وترقدَ، ولكنْ هيهـات ! هاهي تشتعلُ من جديدٍ فتُشعِلُني معها، وتُشعلُ أسئلةً حيرى نبتتْ على شفتيَّ فأحرَقَتْهُمـا..اقتربتُ منه أكثرَ وسألتُه، والارتعاشةُ تصفعُ محيّاي وجوارحي :
- رجاءً أخبرني عنْ .. أهلي، والدي، والدتي، أخوتي و..
ويبسَ الحرفُ في حلقي ولمْ أستطعْ أنْ أكمـلَ، ولحسنِ الحظِّ أنّ الرجلَ كانَ طيّبـاً فأجابني على الفور:
- والدكِ مازالَ حيّاً، إنه بخيمته لايفارقها مذْ رحلتِ، وأخوتكِ قدْ خرجوا في رحلـةِ صيدٍ منذُ أسبوعيْن . أمّـا والدتُكِ فقدْ .. توفيتْ حزناً على فراقـك، توفيتْ بعدَ رحيلكِ بأيام قلائلَ فقطْ .
وشعرتُ بأنَّ الدنيا أظلمَتْ، وبأنّ الليلَ قدْ تهاوى على كتفيّ يعاقبني، يحاسبني على مؤازرتي للقمـر في لحظاتِ وجعه، أوْ على إنصاتي لهمسِ النجومِ التي كانتْ تحرسني من العذّالِ ومِنْ سارقي الحلم، أوْ على تمسّكي بالحبّ العفيف الذي أزهرَتْ بينَ حناياهُ سنينُ عمري .
بحَّ الصوتُ في صدري حتّى خُيِّـلَ لي بأنَّني أخرسْتُ أوتارَه ! لمْ أعدْ أُبْصِرُ غيرَ شمسٍ تشقُّ جيوبَها حِداداً، غيرَ ليـلٍ يستعدُّ لإحياءِ حفلِ دمعٍ لايفنـى .
فتحتُ عينيّ بعدَ برهةٍ من الزمن، خُيِّلَ إليّ أنها سنينٌ عجاف اعتكفـتْ بذاكرتي، وجدتُ نفسي مستلقيةً على فُرُشٍ بخيمةٍ متراميةِ الأسرار، مُغْرِقَـةٍ في الصمتِ، وحولي الذكرياتُ تتراقصُ متغنّيةً بروحِ حبيبتي الراحلـة .
انهملتْ دموعي حرّى تجلدُني جَلْداً، وأنا أتهاوى على حزني، أنفضُ عنْ وجهِ والدتي الراحلـة ماعلِقَ بـهِ مِنْ أشواق، لأجدَ ابتسامتَها تُلقي عليّ تحيةَ الحبّ والعطـاء ..
وبينما أنا غارقةٌ في مناجاةِ طيفِهـا، دخلتْ عليّ الخيمةَ فتـاةٌ نقشَ الدهرُ على تقاسيمِها حكاياَ الدهشة، ورسمَ الوجعُ على محيّاها شحوباً يقتاتُ منْ لونِ الغروب. كانت تسترقُ النظرَ إليّ وهي تنتزعُ انتزاعاً بسمةً صغيرةً، بسمةً ربما لم تتجاوزْ السنتينِ من عمرِهـا .
جلستْ قربي، وهي تحملُ بينَ أناملها جَرّةً منَ اللبن، فابتدرتُها بالحديث بعدَ أنْ حفَرَتِ الصمتَ على قلبي :
- ألستِ ... ليلـى ؟؟؟ بلى بلى أنتِ هي وربّي !! أنتِ ليلـى !!
وتعانقنا وماءُ الشؤونِ يهطلُ مِنْ مقلتيْنا مدراراً كسنينِ عذابنـا، كأوراقِ عمرِنا التي تساقطَتْ بينَ سطورِ النّوى، كأشواقنا لأهلنا وأحبابنا.
قدّمَـتْ ليلى اللبنَ وهي تربّتُ على كتفي :
- لقدْ أغميَ عليكِ حينَ علمتِ بخير رحيلِ والدتكِ، أخبرني المنذر: الرجل الذي كنتِ تتحدثينَ إليه، فسارعتُ إليكِ، ونقلناكِ إلى خيمتي .
- أُغميَ عليّ ؟؟؟! آهٍ ليلـى، ماكنتُ أعلمُ أنّ حبيبةَ روحي قدْ رحلتْ، آهٍ ليلـى كمْ يقتلنا الفراق !! أحنّ إليها وإلى ذراعيْها، إلى خصلاتِ قلبها وهي تخبّئُ خوفي، تداعبُ أمْني وأماني ! الآنَ فقطْ أدركتُ لماذا كان طيفُها يزورني كلّما جلسَ القمرُ إلى جانبي متخفّياً، كلّما نزلت النجمةُ الأولـى مِنْ بيتها كيْ نسهرَ معاً على شموعِ الذكرى. كانَ طيفُها بالقربِ منّي دائماً، يحرسُ مضاربي منَ المخاوفِ، يطبعُ على جبينِ قلبي قبلةَ حنانٍ ورضـاً. وأنتَ ياوالدي، ماذا فعلَ الزمانُ بك ؟؟ ماذا صنـعَ بُعدي عنكَ يا حبّة القلب؟؟!
وأنتِ يا ليلـى، يا رفيقةَ الدرب وشقيقةَ الروح، ماذا فعلَ الزمانُ بكِ ؟؟ أيّ عذابٍ حفرَ اسمكِ على صفحاتِ التاريخِ مأساةً ثمِلـة ؟؟؟
ألمْ تعلمي بوجودنا بالقبيلـة ؟؟ قدِمْتُ وأحبّتي من قبيلـة "رابطة الواحة الثقافية" من أجلِكِ . قيسٌ هنا ! ألمْ يخبركِ أحدٌ بذلك ؟؟ ألمْ يخبركِ قلبُـكِ بأنَّ توأمَـهُ وإلفَـه هنا ؟! أمْ أنّ زوجكِ ورْداً قدْ منعـكِ وحجبكِ عنّا ؟؟ تحدّثي ليلـى أرجوكِ ! أستحلفكِ باللـه !
قامتْ ليلـى مِنْ مجلِسِها والدموعُ تطلّ مِنْ محاجرها، نظرتْ إليّ نظراتٍ حبلى بالوجع:
- أحنُّ إلى أيامنا بالقبيلة، إلى الفرحةِ التي كانتْ تلعبُ معنا قربَ البئر، أتذكرين ؟؟؟ لاأستطيعُ أنْ أكملَ حديثي هنا، الخيمةُ تخنقُ أنفاسي وتزهقها، آهٍ كمْ بُحتُ لهذه الخيمةِ بحكايا الشوق والشجن ! هي وحدها التي كانتْ ترثي لحالي، وهي وحدَها أيضاً مَنْ ظلّتْ عيناً لزوجي، تحرسُ حركاتي وسكناتي، إنْ اشتعلَ بقلبي الشوقُ تخبر ورداً حتّى تشقّقَ عمري وتفتّتتْ أوراقـُه !
وأجهشتْ في البكاء، حاولتُ أنْ أهدّئَ من روعِها قليلاً ..ثمّ خرجنا خارجَ الخيمةِ هاربتيْنِ مِنْ ذكرياتٍ تعتّقَتْ هناك، مِنْ شجونٍ كانتْ توسِعُ القلبَ النابضَ ضرْباً، فقالتْ لي ليلـى وهي تتأبّط ذراعي خوْفاً :
- انظري إلى هذه الصحراء متراميةِ الأطراف، قدْ رتَّبَتْ صمتَها وتزيّنَتْ بالخرسِ المقيت، قاحلـة قاسية كقلوب مَنْ في القبيلـة ..انظري ! كان قلبي شاحباً مثلَ الصحراء، جافّاً لاتزوره الحروفُ إلاّ لماماً، لاتزورهُ إلاّ حينَ يزورني طيفُ الحبيب قيسٍ ..آهٍ قيس ! ماأزالُ على عهدِكَ وهواكَ محفورٌ بقلبي، أقولُ ما تقـول، ألستَ أنتَ القائـل :
لقد ثبتت في القلـب منـك محبـةٌ
كما ثبتت في الراحتيـن الأصابـعُ 1
انظري إلى هذا القبرِ الذي تتراقصُ حولَه الأشواق، أعرفتِ قبرَ مَنْ هذا ؟؟ إنه قبرُ عاشقـةٍ أحبّـتْ مثلنا، لكنّهمْ سرقوا أحلامها كيْ ينحروها على موقدِ أعرافِ القبيلـة، قتلوها ظلماً حينَ أبتِ الزواجَ من غير مَنْ تهوى، بينماَ أهدروا دمَ حبيبِها الذي هامَ على وجهه حتّى قضى شوقاً، ودُفِنَ هو في مكانٍ تتعاورُه الرياحُ وتحرسه طيورُ الجوارحِ .
- أجل أذكـر أنّني وأحبّتي مررْنا بقبرٍ ونحنُ في طريقِنـا إلى هنا، أخبرنَا قيسٌ أنّه لعاشقٍ من قبيلة بني عامرٍ أيضاً، وأنّ حبيبتَه قضتْ هي الأخرى ودُفِنَتْ بعيداً عنه.
- انتظري ! هل تسمعينَ ؟؟؟ إنـه صوتُ قيـسٍ !! إنـه قريبٌ منّـا ..لاأصدٌّق نفسي ؟؟ لكنّني لاأراه، أينَ هو ؟؟!
كانَ الصوتُ متهدّجـاً مغرورقاً بالشجن، يصل إلينا عبرَ الأثير مضمّخـاً بالشوق :
أُحِبُّك حبّاً لو تحبِّين مثلَه
أصابك منْ وَجْدٍ عليَّ جنونُ
قتيل من الأشواقِ أمّا نهارُه
فباكٍ وأمّا ليلُه فأنينُ 1
- أجل ليلـى، هذا صوتُ قيسٍ، انظري إلى هنـاك ..هو جالسٌ ومحمد ابراهيم الحريري ينشدان شعراً، وهذا صوتُ الحريري :
إني رأيتك بيـن الغيـد بالخيـم
لـم تكتـرث بنـداء رقَّ للقلـم
ليلى وأنت وآرام بهـا اكتملـت
موسوعة العشق بين الآه والنغم 2
----- يُتبَـعُ بإذن اللـه -----
--------------------------
1- 1 من شعر قيس بن الملوّح
2- من شعر محمد ابراهيم الحريري