كاتب روسيا المبدع , وسيد القصة القصيرة في العالم بلا منازع
وُلد انطون بافلوفيتش تشيخوف في سنة 1860 في بلدة
( تاجانروج ) الفقيرة المُعدمة الواقعة على بحر الخرز جنوبي العاصمة الروسية موسكو لأسرة يعمل أفرادها في خدمة الطبقة الاقطاعية ؛ وقد نجح جده في تحرير أفراد أسرته من القنانة ؛ وتمكن والده بعد التوفير والاقتصاد لسنوات من شراء حانوت للبقالة ؛ وانهارت سريعا تجارة الأب القاسى المهووس دينيا ؛ لتدخل الأسرة فى نفق مظلم من الفقر والتعاسة ؛ إلاّ أن الاوضاع
الاقتصادية والاجتماعية المتردية التي عاشها انطون في طفولته ؛ ولّدت لديه نوعا من التحدي قاده إلى النجاح مستعينا بما كان يسميه :
( العمل...العمل...العمل , طالما أن أحداً لن يمد لك يد العون والمساعدة ) . وقد اكتسب موهبته في الكتابة من أمه (
ايفجينيا تشيخوف ) ؛ الحكاءة راوية القصص ؛ رغم كونها لم تحصل على قدر كاف من التعليم .
وفي سنة 1879 التحق تشيخوف بكلية الطب التابعة لجامعة موسكو وخلال تلك المرحلة بدأ بنشر عدداً من القصص القصيرة في صحيفة (
سانت بطرس بيرج ) ليذيع صيته ككاتب معروف في سنة 1886. وبعد تخرجه عمل في مهنة الطب حتى سنة 1892.
كانت أعراض مرض السل قد ظهرت عليه وهو في سن الرابعة والعشرين ؛ وتمكن منه المرض ، لينتهى بموته وهو فى سن الأربعة والأربعين .
بعد مرور كل هذه السنوات علي رحيل تشيخوف يظل هذا الرجل في الإبداع العالمي , حالة فريدة عبّرت عن الكينونة الإنسانية , فتشيخوف هو أحد الكتاب الذين تلمسوا الحزن الإنساني واستطاع أن يمسح عن وجه المهمشين والفقراء , وسكان الأحياء الصغيرة في المدن المزدحمة آلامهم , واستطاع أن يرسم أمامهم حلماً بديعاً عن المستقبل , وهو القائل عن نفسه أنه عاش أربعين عاما ليعتصر من عروقه دماء العبودية .
ولقب مؤسس القصة القصيرة لم يأت من فراغ , بل لأنه استطاع تحطيم الأعراف الأدبية وغير الأدبية , وذلك بخروجه علي القواعد , مثل البداية والنهاية ومواصفات الشخصية والحبكة القصصية ؛ كذلك البساطة والاختصار والغموض فى آن واحد ؛ التي كانت أهم سمات جماليات أسلوب تشيخوف .
وتميز إنتاجه القصصي بالشمول وروح الفكاهة المشوبة بالحزن ؛ شخوصه حية ترزق تقابلها أينما ذهبت ، تشعر بأنفاسها حارة على وجهك وأنت تسير في الشوارع ، وربما تقابل أحدها لو نظرت في المرآة .
كان الوجود الإنساني مأساة عبّرعنها تشيخوف وصوّرها في قصصه القصيرة , وفعل ذلك بنظرة دقيقة واضحة وعطوفة ؛ ولم يكن أبطال قصصه ملوكاً أو أمراء , إنما هم بشر من السائرين في الطرقات .
تُشبه مؤلفات تشيخوف فيضاناً من الابتكار المستحدث والتنوع الدائم , ليس هناك من وتيرة واحدة , وليس هناك من قصتين متشابهتين لا في الأشخاص ولا في الحوادث .
لقد كانت معرفته بالرجال والنساء عميقة وواسعة , أيضاً كانت قدرته على التركيز مُدهشة ؛ فالفكرة الغامضة العويصة التي يحتاج بعض الكتاب لإظهارها الى قصة طويلة , يستطيع تشيخوف إخراجها في صفحات قليلة . كان يدرس أبطاله جيداً , وكان يفهمهم تماماً , وكان يستطيع ببساطة أن يُعبّر عن شخصياتهم , وقد عرف كيف ينفذ إلى أعماق النفس الإنسانية.
ليست العشرات من قصصه وحدها هي التي أخذت شكلاً جديداً ؛ بل مسرحياته أيضا , فقد تمرّد على كل الأسس المسرحية التي كان المساس بها يُعد من المحرمات ؛ وتميّزت مسرحيات تشيخوف باللمسات الخافتة اللمّاحة ، وبجوّ مُـفعم بالحنين والشاعرية ؛ تجلّى ذلك في الابتعاد عن المواقف الجاهزة واجتناب العنف ، والخلو من وسائل الإثارة .
مسرحياته لا تتضمن من الأحداث إلا القليل ، وقد كتب للمسرح أربع مسرحيات هي :
( النُورس ) ؛ و( العَم فانيا ) ؛ و( الأخوات الثلاث ) ؛ و( بُستان الكَرز ) ؛ وكان له أسلوبه المتميز في الدراما السيكولوجية التي يلعب فيها الانفعال الداخلي دوراً مهماً .
كان متواضعاً حين تصور أن أعماله ستُـقرأ لسبع سنوات فقط بعد وفاته ؛ ولكنه أصبح ظاهرة في الثقافة العالمية بزيادة عدد قرائه بمضي الوقت .
واعْـتُـبِـرَ تشيخوف إلى جانب الفرنسي جي دي موباسان والأمريكيين إدجار ألان بو وأرنست هيمنجواي ؛ من أقوى القوى الفاعلة في القصة المصرية القصيرة خصوصاً في الفترة من الأربعينات إلى السبعينات ؛ حين بدأت القصة تولّي وجهها شطر مصادر أخرى للإلهام كأدب أمريكا اللاتينية ؛ ففي رأي عدد من المترجمين والنقاد المصريين ؛ أنّ الروسي انطون تشيخوف كان الكاتب الأكثر تأثيراً على أجيالٍ من الأدباء المصريين مثل يوسُف إدريس ونجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل في الآداب .
وكان يوسُف ادريس يُوَاجَه في حياته بأنه ( تشيخوف مصر ) ؛ ولكنه كان يُـنفي التهمة
قائلا : أنه تخلص من تأثير تشيخوف الذي ( جاءني فدَعَّم بواقعيته إدْرَاكي لحقيقة الاشياء ).
...