البطل مغتربا
في ( ظل الحجرة ) لسمير الفيل
(1)
أعتقد أنه سيظل عبد العزيز صالح راغب النجار بطل رواية " ظل الحجرة " لسمير الفيل عالقا بالأذهان ، ويُشار له بالبنان - كنموذج للمثقف المقهور والمنهزم والمأزوم – لجيل السبعينات في القرن الماضي – متجاوزاً فى أزمته كمال عبد الجواد المثقف الحائر في ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة . فأزمة عبد العزيز النجار أزمة مركبة ومعقدة ، إحباطات نفس وشروخ روح ، أزمة عصر وأزمة حضارة 0
وفي مقاربتنا النقدية سنحاول ألا نقع فى غواية الموازنة والمقاربة بين البطلين وسنُسكت صوت النداهة فى داخلنا ولن نستجيب لغوايتها ولا لوسوستها للنفس لكي نوازن ونقارب بين بطلين وروايتين وعصرين .
اعتمد سمير الفيل في روايته علي تقنية تيار الوعي ، وهي تقنية شاعت عند روائي الستينات - الجيل السابق لجيل الفيل ، وتقنية تيار الوعي هي تقنية روائية بالأساس ، ( يسعى الكاتب فيها إلي رسم شخصية إنسانية بمختلف جوانبها من الخارج ومن الداخل ، بكل ما في ماضيها وحاضرها وأحلامها وتشتتها )(2) وتعني فى النهاية ( برسم هوية ذهنية ومحتوي ذهني )(3)
وسمير الفيل عُنيّ في روايته برصد حالة البطل من الداخل ، الداخل المصطرع والمضطرب ، واتخذ من هذا الداخل نقطة البدء والانطلاق ، وجاء الخارج هامشا بالنسبة للداخل المتن .
ونكاد لا نعثر علي وصف خارجي دقيق ومحدد لملامح أي شخصية من الشخصيات التي جاوزت الأربعين شخصية بمن فيها عبد العزيز النجار نفسه ، غير محدد الملامح هو أيضا ، باستثناء العينين الواسعتين و( الحسنة ) التي أسفل الذقن 00 "ورثت اتساع العينين ، وسخط هائل علي العالم من حولي00"00 " لم يكن بمقدورها أن ترفع وجهها لتنظر في وجهي وهي التي كانت تعرف مكان( الحسنة ) أسفل ذقني وتمنحها امتيازات خاصة "
وقسم الكاتب روايته التي تقع فى (130 صفحة) من القطع المتوسط إلي إحدى عشرة لوحة قلمية بتعبير يحيي حقي ، أسماها فصولا ووضع لكل لوحة عنوان موح ودال ، والعناوين هي " صفعة مساء قديم ، ورد أسود ، وكالة البلح ، فى الممر ، سيف بشتاك ، أشياء منسية ، دم فاسد ، سبت الحزن ، أساور من ذهب ، طلاء يتفتت ، قطعة الرخام ) واللوحة : ( شكل مكاني ينهض علي تجميد الزمن عند لحظة مهمة ثم تعميق هذه اللحظة من خلال الرسم فى المكان وشحن الكلمات بطاقة مضيئة تسمح برؤية الأبعاد الزمنية السابقة واللاحقة ، هذه اللحظة تُضاء بنور سماوي ، ذلك النور الذي يمكننا من التفرقة بين الماضي والحاضر والمستقبل كما لو كانت هذه الأزمنة جميعا ماثلة معا)(4)
ويستعيد كاتبنا فاعلية الزمن في هذه اللوحات عبر اهتمامه بالصراع الداخلي الموّار لبطله عبد العزيز النجار – ووصف حالة عقله وعواطفه وانفعالاته – والاهتمام بالأسلوب ، ودقة الخطوط والألوان والظلال – معتمداً علي تذكر البطل ، ويُعد التذكر ملمحا رئيسا وبارزاً فى رواية تيار الوعي ، والذاكرة والديمومة هما الأداتين00: ( فالديمومة هي السيلان المستمر للزمن والذاكرة مستودع أو خزان للسجلات والأثار الثابتة للأحداث الماضية تشبه السجلات المحفوظة فى الطبقات الجيولوجية ) ( 5 )
وفي رسمه للوحة / المشهد / المونولوج – قد يبطئ من سريان الزمن وسيلانه أو يسرعه أو يوقفه أو يقطره تقطيراً ، ليستعبد حادثة من الحوادث أو وجه من الوجوه لشخصية من الشخصيات أو مكان من الأمكنة وهذه الحوادث وتلك الشخصيات وتلك الأماكن تتكرر باستمرار عبر المشاهد والمونولوجات ولا يقدم الكاتب الشخصية أو الحادثة دفعه واحدة ، ولكننا نجدها متناثرة ومتشظية ومبثوثة في معظم المشاهد ولذا لا تتضح معالم الرؤية للشخصية ولا معالم المكان ولا تكتمل الحادثة إلا فى نهاية الراوية .
إذن التقتير في تقديم المعلومة هو السمة الغالبة، حتى عبد العزيز النجار بطل الراوية ، لا نعرف اسمه إلا متأخرا فى ص 73 ، ولا نعرف بأمر زواجه وهروب زوجته منه بابنها منه إلي دار أبيها إلا في الثلث الأخير من الرواية ، وأيضا أمر سجنه فى الزنزانة (14) وسيره فى المظاهرات للمطالبة بالديمقراطية والحرب و ...عمله كمدرس للفلسفة ومحاولاته الفاشلة فى الكتابة للمسرح وخيباته فى الحب مع البنات التي ترد أسماؤهن بكثرة .....و .....و00 وأخواله وأعمامه وإخوته وزملاء الدراسة و....و ....ويقدم المعلومات باقتصاد شديد كما يكتب اللغة باقتصاد أشد ، هل هي الطبيعة الاقتصادية للمجتمع الدمياطي أم طبيعة الفن عنده ؟ 00حيث لا مكان للغو والثرثرة والإنشاء الأجوف – فيميل إلي الاختزال والتكثيف والاكتناز .
وسموات المجموعة تتكشف رويدا رويدا من خلال تلك المونولوجات المفتوحة علي بعضها البعض ، ومحاولة الإمساك بتلك النتف الصغيرة التي تتري على ذاكرة البطل عبد العزيز النجار 00عن أشخاص وأماكن وأحداث ، مبتورة فى البداية ، مبتسرة أحيانا ، غير مكتملة النمو أحيانا أُخر ، ولكنها تأخذ فى الالتئام وتأخذ فى النمو – بالتداعي الحر وبالفيضان العاطفي والذهني للبطل ، وهذا يتطلب من المتلقي أن يكون يقظا ، ونشطا ذهنيا ، ويظل متوترا ، ومشدودا طول الوقت ، يعمل فكره ، ويجهد عقله ، ويشعل خياله ، ويحاول أن يلتقط كلمة من هنا وإشارة من هناك ليسد الفراغات ، ويملأ الفضاءات التي تركها المؤلف .ويكون شريكا معه فى إنتاج المعني وصناعة النص كما نادي " رولان بارت"
فالنص إذن ، نص حداثي متطور ، اتخذ فيه الكاتب لنفسه أسلوبا متقدما فى الكتابة .
يتبع