قبل أن أبدأ بمقالي هذا أحييكم أجمل تحية ، وهذا مقال من سلسلة مقالات نشرتها سابقا بعنوان : هذا هو الرجل .
أسلط الضوء فيها على رجل معين ظلم في التاريخ أو على أيدي الأدباء ، أو أسلط الضوء فيه على ظاهرة فريدة لم تطالها أيدي الباحثين ، وأرجو أن يروق الأمر لكم .
هذا هو الرجل
قراقوش وظلم الأدباء له
الكثير منا يردد مقولة: " حكم قراقوش "، ولكن القليل من يعرف سر هذه المقولة، والقليل أيضا من يعرف معلومات وافية عن هذه الشخصية التاريخية التي وقع عليها ظلم الأدباء وجورهم، حتى طالوها بالقذف والتشويه.
كثرا ما يرث الملوك فيما يرثون رجالا يخلصون لهم، ويعيونهم على ملكهم ، ويكونون أنفع لهم من المال والذخائر التي يتركها لهم الآباء والأجداد .
عندما استقر الأمر لصلاح الدين الأيوبي بمصر استعان برجال عظماء كان بهاء الدين قراقوش من بينهم ، وهو على ما تذكر كتب التاريخ فتى رومي نسبه أسد الدين شيركوه إلى نفسه لأنه أسلم على يده ، وكان رجال الجيش قد أنسوا من هذا الفتى الرومي رشدا ، ووجدوا في أخلاقه ميلا إلى الشدة والصلابة ، وبذلك نال الرتب العسكرية التي شجعته على خدمة الدولة الأيوبية ، وضربوا به المثل في الصبر والجلد والمثابرة ، فما لبث أن أصبح أميرا من أمراء الجيش ، فكان دعامة من دعائم هذه الدولة الفتية .
ومع ذلك لا يذكر الناس في مصر والشرق شخصية قراقوش ، إلا مقرونة بالهزء به ، والسخرية من عقله ، إلى حد أنهم يتهمونه بالخبل والجنون ، ولهم في ذلك أخبار وحكايات يتندرون بها في مجالسهم ، ويحوكون حولها الحكم والأمثال ؛ حتى شاعت بينهم هذه العبارة : " حكم قراقوش " ، ويقصدون بها أن فلانا من الناس يريد أن يظلمهم أو يبطش بهم ، أو يتعسف في حكمهم ، ويذهب في ذلك مذهب المجانين المخبولين ، كما فعل قرقوش بالمصريين وغير المصريين .
والواقع أن قراقوش لم يظلم ولم يتجبر ، ولم يبطش بأحد من المصريين أو غيرهم من المسلمين ، ولم يصدر في عمل من أعماله عن عقل يمكن وصفه بالخبل والجنون . وأنه براء من هذه التهم التي كيلت له زورا وبهتانا ، وزيد فيها على مرور الأيام ، وإن في صفحة تاريخه المجيد ، وسيرته الحميدة ، وفي عظم الجهود التي بذلها في سبيل الدولة الجديدة ، ما ينهض دليلا على صدق ما نقول .
فما سبب هذه الأحدوثة السيئة التي اشتهرت عن قراقوش يا ترى ؟وعلى من يقع الذنب في هذه الصورة المشوهة التي مسخت تاريخه الأبيض الجميل ؟*.
سبب ذلك كله هو الأدب ، والتبعة في ذلك كله تقع على ألأدباء ، فهؤلاء هم الذين شوهوا سمعته ، ومسخوا للناس صورته ، فإذا هي صورة تثير في نفوسهم الضحك والازدراء ، وإذا هي تصلح أن تكون مادة للسخرية من الحكام ، وما يصدر عنهم من أعمال .
ألا ما أقدر الأدباء في كل زمان ومكان على أن يقلبوا الحق باطلا، والبطل حقا، والسخيف من الأعمال حسنا، والحسن سخيفا، وكم في تاريخ البشر من رجال عظماء أهملهم الأدب، وخلق منهم بالكذب أبطالا يتغنى الناس بمدحهم، وهم ليسوا أهلا لهذا المدح.
ومن أجل ذلك لا نكاد نعرف دعوة دينية أو سياسية أو اجتماعية قد استغنت يوما عن الأدب والأدباء، أو سكتت حينا عن اصطناعهم لها، واتخاذهم أداة لنجاحها وذيوعها، وحمل الناس جميعا على تصديقها، والأخذ بها.
كان قرقوش جنديا لا خبرة له بالأدب، ولا علم له بأسره، وقد شاءت الأقدار أن تسلط عليه لسان أديب أريب ، هو ( ابن مماتي ) ، ولأمر ما يمت إلى السياسة بصلة ، ألف هذا الأديب كتابا في هذا الجندي الصبور ، وجاء كتابه هذا سخرية مرة منه ، ومن طريقته في الحكم ، وأقبل الخاصة والعامة على قراءة هذا الكتاب لسحره وشدة أسره ، وذهبت العامة تعتقد الشر والخبل في هذا الرجل ، والرجل نفسه بعيد عن كل هذه التهم .
وانتقل الكتاب نفسه من مصر إلى غير مصر من أقطار الإسلام، واتخذ لنفسه في كل قطر منها صورة تتفق مع ميول هذا القطر وظروفه، وتختلف عن صورته في الأقطار الأخرى، وأوشك الناس في تلك البلاد أن ينسوا تاريخ الأمير قرقوش، وأصبحوا لا يكادون يذكرون غير كتاب ( الفاشوش )، وهو الكتاب الذي وضعه هذا الأديب الداهية في ذمه والغض منه.
والناقد الممحص في النواحي العلمية والتاريخية والأدبية، ولا سيما في تاريخ هذا الأمير المجاهد، وتاريخ مؤلف الكتاب يجد التجني الواضح على هذه الشخصية المحورية في تاريخ الإسلام آنذاك، ولا أريد أن أطيل في الإحاطة بما توصلت إليه من هذه النواحي لأن هذا يحتاج إلى صفحات طويلة، ولكنني أشير إلى بعضها فيما يلي.
تذكر كتب التاريخ المحقق أن قراقوش كان من أهم رجال صلاح الدين الأيوبي الذين يعتمد عليهم في حروبه وإقامة تحصيناته الحربية، ولعل أول ما كلفه به بناء قلعة الجبل على جبل المقطم المشرفة على القاهرة، وذلك لما اشتهر عنه من الصبر، والمواهب الخارقة في الحروب والهندسة المعمارية.
وما كاد الأمير يفرغ من بناء هذه القلعة حتى كلفه السلطان ببناء قلعة المقس، وكان بارعا في ذلك لمعرفته بأساليب الصليبيين في الحروب والبناء، ثم أمره أن يقيم سورا يحيط بالقاهرة، ويصل هذه القلاع كلها بعضها ببعض.
عند ذلك كتب القاضي الفاضل إلى السلطان رسالة طويلة في ذلك يقول فيها: " والله يحيي المولى حتى يستدير بالبلدين نطاقه، ويمتد عليهما رواقه، فما عقيلة كان معصمها ليترك بغير سوار، ولا خصرها ليتحلى بغير منطقه نضار. والآن قد استقرت خواطر الناس وأمنوا من يد تتخطف، ومجرم يقدم ولا يتوقف... " فلما قرأ السلطان هذه الرسالة سربها وبخادمه بهاء الدين قراقوش، وعلم أن الله يريد بدولته خيرا، إذ قيض لها مثله.
ولعل آخر ما قام به من أعمال جليلة بناؤه لسور عكا عام (585هـ)، وذلك في أثناء المحنة التي مرت بالمسلمين، ومن المهم ذكره هنا أن السلطان ولاه على عكا التي حاصرها الفرنجة حصارا عسيرا، كان فيها قراقوش نعم القائد الصابر المجاهد، وكلما فكر جنده بالتسليم للعدو مناهم وأملهم وشد عزائمهم، وما يزال بهم حتى يرجعوا عن هذا العزم، ويتقدموا شجعانا كعادتهم لإخافة هذا العدو اللدود.
وشاءت الأقدار أن تخذل أن ينكسر جيش الأمير الصابر، حيث دخل الفرنجة عكا وانهالوا على أهلها نهبا وذبحا وأسرا، ووقع الأمير في الأسر، وبقي في الأسر حتى أفرج عنه حين عقد الصلح، وكان يوم الإفراج عنه يوم سرور عظيم؛ إذ فرح السلطان به فرحا شديدا، لما كان له من أثر على الإسلام والمسلمين، وبقي الأمير قراقوش إلى جانب السلطان إلى أن تولى الله السلطان برحمته.
ثم بقي قرقوش على ولائه لأبناء صلاح الدين من بعده، ولاسيما ولده الملك العزيز، والأمثلة على عظم شأن هذا الأمير المجاهد كثيرة، يمكن أن يجدها من يريد ذلك في الكتب التاريخية النظيفة.
ومن الجدير بالذكر أن ابن مماتي مؤلف ( الفاشوش ) مات قتلا على يد صلاح الدين الأيوبي لخيانته ، ومحاولته إعادة الدولة الفاطمية .
وأخيرا فإن من الإنصاف أن نقول: إن على الإنسان أن يتحقق من كل ما يقرأ، وعليه أن يعرف الكتاب النظيف من الكتاب الذي يشوه صورة العظماء، لأنه بذلك يريد تشويه صورة تاريخهم المجيد، ويجب أن نمحص في كتبنا ولاسيما الأدبية حتى نصل إلى الحقائق.