نزيف آخر الشرايين
زكية علال
يتمدد الآن على سريره الفاخر...وتتمدد في أفقه كل قضاياه وملفاته التي ظل يدحرجها من مرتفع إلى آخر ومن زا وية إلى أخرى كي يؤجلها إلى أجل لايريد أن يسميه أو يضع له رقما أو تاريخا ...آه...التاريخ ...إنه جمرة بل وهج ظل يأكل أطرا ف حياته,ويزحف-الآن-ليلتهم ما تبقى في متحف العمر.
الآن...تتثاءب الأرصفة التي خلفها وراءه لتطارده كدخان سيجارته التي تنفث رماد قلبه...وتظهر- جليا-خطيئة الإختيارالذي جعل منه بقايا رجل لإنه اختار وطنا من ورق...
عندما خيروه بين أم أنجبته وأم ستنجبه وتصنع له أمجادا من طين الخطيئه,ساعتهاتخلى عن المولود واختار من ما زال نطفة في رحم المجهول.
تململ في فراشه وهو يحاول أن يجد لجسده النحيف وضعية مريحة تخفف عنه وجعا يسكن عروقه و يتعلق بجدار قلبه ليقتات من رائحة دم تعفن وبات يلون صورا قريبة و بعيدة تتصارع فيما بينها على ملكية ذاكرة مهزومة.
ا نفتح با ب الغرفة نصف المضيئة –لأنه يصر دائما على إ سدا ل الستائر- وأطل منه رأس حفيدته ’’إلهام‘‘وقد بادرته بلهجة سريعة :
-رأيت أن أعرج عليك قبل ذهابي إلى الجامعة لعلك تحتاج شيئا.
بعد صمت قصير جاء صوته متكسرا :
-اقتربي يا إلهام.
رمت بمحفظتها على الطا ولة المجاورة لسريره ,جلست إلى جا نبه ثم قالت له وهي تمسك بيديه الهزيلتين:
-نعم...هل تريد شيئا؟
حدق في عينيها الجميلتين,الموحيتين,كأنهما جسر يعبر إلى متحف عمره,ثم بادرها بصوت ضعيف ينم عن عجز يسكنه:
-أحس أن أجلي قريب...الموت يطوقني بذراعين من حديد,ولاأحد يريد أن يحقق لي رغبتي الأخيرة.
انفرجت شفتاها عن إبتسامة بلهاء وردت عليه:
-إنك تجهد نفسك لأمر لاقيمة له ,ولا يستحق كل هذا العذاب الذي تغرق فيه,فالوطن هو كل مكان في العالم يمنحنا راحة البال ولقمة العيش وحبا يريحنا العمر كله,فما قيمة وطن لاخبز فيه ولاورد...
ثم استطرد ت وهي تنحني بوجهها نحو صدره حتى حاصرت ضعفه بقوة أنفاسها:
- كلما صار الوطن أطلالا وجب أن نحوله إلى مقبرة ندفن فيها ملامحنا وعروقنا ودمنا لنصبح خلقا آخر.
لم يقل شيئا...أحس أن العجز يلبسه , بل يسكنه, فشد على يدها كأنه يشكو لها ضعفه.
احتضنت يده المهزومة بين يديها, ثم قالت وهي تتأهب للوقوف:
- الذين تشعر بالذ نب نحوهم , نسوا اسمك, ولا يتذكرون ملامح وجهك.
وسحبت نفسها نحو البا ب لتترك آثار تفكيرها جاثمة على صدره...إذا كانت حفيدته تعتقد هذا التفكير, وتؤمن به, فكيف يكون اعتقاد أبنائها؟
’’الأجيال هاهنا تتعاقب لتضيع ملامح وطن هربناه في صدور فارغة...آه...لاأحد يدرك حجم الوجع الذي يأكل من عزيمتي,أكثر مما يأكله المرض الخبيث‘‘
كلمات من جمر,كان يسقي بهامانبت من شوك وألم في مساحة عمره وخرابه...تنفس بعمق كمن لم يدخل الهواء إلى جوفه من قبل لأنه أحس أنها المرة الأخيرة التي يسترجع فيها تفاصيل شريط حالك ظل يتكرر في خاطره كل ليلة...الآن يفتح الحائط المقابل له على صور ماضية حاول – عبثا- أن يهربها من ثقوب نفسه المهزومة:
لم يكن يفقه معنى الحرب رغم دوي الرصاص ,وأزيز الطائرات ,ومداهمة العساكر لكوخه المتواضع مرات عديدة قد تتكرر خلال اليوم الواحد...
عندما سأل أباه يوما عن سبب غيابه المتكرر,أخبره أنه يجمع ’’الشيراك ‘‘وهو كل ما يجود به المواطنون لمساعدة إخوانهم المجاهدين من مال ولباس و.......
ومع ذلك كانت ملامح الفقر- وحدها- تلاحق يومياته وتفرض عليه أن يقضم كسرة الشعير,
ويتبعها بالبصل لتصبح لزجة يسهل بلعها...كم كان مذاقها مرا في فمه.
كانت المرارة تغرق نفسه وهو يشاهد’’القايد شعبان‘‘يمر أمام كوخهم ممتطيا فرسه متبخترا داخل برنوس أبيض ناصع,كأنه ملك متوج..لكن- أبدا- لم يفكر في التمرد.
كان متعودا أن يخرج إلى العين السوداء لجلب الماء,فأمه مريضة مقعدة,وأخواته تزوجن في سن مبكرة...لون ذلك اليوم كان مختلفا عن الألوان التي عهدها في حياته..كانت هي قد رفعت من شأنه,وجعلت له تاريخا وعيونا ثقبت لوحة صدره ووضعت اللمسات الأولى لحكاية دغدغت مشاعره بإحساس لم يعرفه من قبل...تسارعت نبضات قلبه وهو يقع على تقاسيم وجهها الجميل....وعندما ابتسمت له,أحس أن كل الطيور المذبوحة عادت تغرد مرة أخرى ,
وتوقع أجمل الألحان, فيتقلص العالم كله ليصبح خطوة بينه وبينها...
أسرع برغبته إلى أمه وأبيه,فلم يمانعا- رغم أنه لم يتجاوز السابعة عشرمن عمره- وذهبا إلى خطبتها...أبوها- أيضا- رحب بالفكرة,لأنه تعب كثيرا في تهريب ا بنته من عبث الجنود الفرنسيين الذين يداهمون بيته من حين لآخر,وقد اضطر مرة أن يغيب جمال ابنته بسواد الفحم,لكي لايطمع فيها أحد من الجنود.
سعادة رشيد لم تدم طويلا,حيث دق الرجل البسيط بابهم ذات ليلة وهو يرتجف خوفا وقلقا,
وأخبرهم أن ’’القايد شعبان ‘‘جاءه صباح اليوم خاطبا ابنته لولده , وعندما رفض بحجة أن هناك من سبقه لخطبتها,توعد بقتله, فلم يملك إلا الرضوخ لرغبته...
تجرع رشيد وعائلته مرارة ’’الحقرة‘‘والتزم الصمت,لكن ’’القايد شعبان ‘‘لم يكتف بحرمانه من خطيبته, بل أسر إلى الضابط الفرنسي أن أباه’’فلاق‘‘وكانت له يد في مقتل عدد من الجنود الفرنسيين ,فاقتيد إلى السجن ليعود بعد سنوات من العذاب وقد فقد عقله ,
وداره, وزوجته,وأصبح محل سخرية أهل الدشرة...
مرارة ’’الحقرة‘‘جعلت من رشيد خلقا آخر,لاتسكنه غير رغبة الإنتقام من’’القايد شعبان
فباع عرضه وانتماءه إلى الضابط الفرنسي المسؤول عن الدشرة ليصبح كلبه الأمين الذي يشم رائحة المجاهدين وأماكن تواجدهم خاصة الذين يرى فيهم صلة قرابة ب’’القايد شعبان
وأخذت الدشرة لون الدم والخيانة, ولبس رشيد لقب الحركي المباح دمه....
وعندما أعلن عن وقف إطلاق النار, اختار أن يرحل مع الفرنسيين مرفوقا بزوجته وولده,
لأن دمه توزع بين عشرات العائلات على مدى سبع سنوات ...
عند مدخل الرحلة, لم يشعر بثقل خطيئته, لكن نظرات الإحتقار التي كان يقابله بها جيرانه , وإحساسه بأنه ا قتلع من جذوره, وبات لاوطن له,جعل الخطأ يكبر ...ويكبر ليغدو
عملاقا بحجم أم ضيعها.
تداخل هذه الصور وتزاحمها, جعله يجهش بالبكاء ويرحل في غيبوبة لم يفق منها إلا وهو فى المستشفى,وولده إسماعيل يجلس إلى جانبه .
رفع عينيه إلى وجهه وهمس بصوت ضعيف:
- لاأريد أن ألفظ آخر أنفاسي هنا...وإن باغتني الموت,لاأرغب أن يدفن جسدي في جوف هذه الأرض.
بادره ابنه مطمئنا:
- سيكون لك ما تريد,وقد بدأت في إجراءات السفر...بعد أيام ستكون فى وطنك.
عندما حطت الطائرة في المطار , أحس أنه طفل صغير يحبو نحو صدر أمه, وتخيلها تبسط له رداء ثلجيا ليعبر إلى قلبها الدافئ ويتلمس حرارة أنفاسها الطاهرة, فتأتي غيثا مباركاتغسل ما تعفن من نفسه, وتزكي جيوب قلبه من كل رذيلة...وعندما وصل إلى بيت بني عمومته,
لاحظ خلقا كثيرا في انتظاره,وصاح أحدهم:
- أقتلوا الحركي...أقتلوا الحركي, فلا أمن ولا أمان له...
وهموا برمي الحجارة التي كانت في أيديهم...لكنهم تجمدوا ولبسهم صمت مهيب,وهم يرون بقايا ملامح تزحف على الأرض, ورواسب تتعلق با لتربة...فأدركوا أنه مقتول منذ الخيانة الأولى, وليس أمامهم إلا شبح رجل أنهكه مرض خبيث وندم دفين.