نهاية غصن (قصة قصيرة )
ما زال يمتدّ من شجرة السدر والأوراق تهتزّ منه مع الهواء الذي يعابثها ، منتصبا من الجذع ، في ميل إلى الأعلى، كذراع مرفوعة من جسم صلد متين تلوّح لقادم من بعيد.
جاءت ثلّة من كائنات يعرف أن أعمار ثلاثة متوالين منهم تحسب بنصف عمره، في بدء الاجتثاث طالت فأس بيد قوية أغصانا أخرى بجانبه ، وبتماسكه ودكنة سمرته التي لا تشفّ عن شحوب تحمّل هذه الهزّات المتوالية حوله؛ فلم تسفر إلا عن تطاير أوراق يابسة منه لم تعد له بها صلة حياة ، ثم سرت فيه كهربة الانفصال التي يصعب معها تحديد موضع القطع من خلال الضربات التي تتالت على رسغه الآن .
تهاوى جزؤه الأعلى تسبقه إلى الأسفل الأوراق المترنّحة التي توّجت عزّ فتوته يوما، الرسغ لم يُخلع فورا بأمارة أنه تمايل مرّتين أو ثلاثا علوا وسفلا قبل أن يلحق بالأغصان التي سبقته ويشمّ التراب ويراه لأول مرة بهذا التلاحم .
نتفوا عنه بأيديهم الأوراق التي لم تسقط أثناء ضرب الحدود والضرب المباشر وفصل عرى المقاومة الأخيرة ، استلقى على جنبه وهو يحس بها تتهادى في الهواء قبل أن تطمئن إلى لثم الأرض بجواره .
وصل إليه عبق لا تخطئه معرفته مع وهج جميل أعقب الدخان الذي صعدت معه أرواح أغصان كانت تجاوره في جسد ، وهم يستدفئون بها الآن ، وكان ينتظر أن يخبو الوهج قليلا كي يحين دوره ، لكنّه فوجئ حين امتدّت يد ولفّت حول جزئه العلويّ قماشة ثقيلة خانقة، تزيد صعوبة إدراكه لما يحدث، لم يفته أنهم حملوه على مبعدة يسيرة إلى مكان مرتفع، ركزه أحدهم ووقف بمحاذاته ، واصطف الباقون خلفه ، ثم أخذ يتحرك حركات يقلدونها ، ويترنّم وهم صامتون.
**
خبا الوهج الصادر من الأغصان التي انقطعت أرواحها عن الصعود ، فتيقّن من رحيلهم ، و غرق في شتى احتمالات مصيره بعد أن مضوا ونسوه . تململ من الحقيقة الجديدة التي يفرضها وضعه المرتكز ، في السابق كان جزءا علويا تتوجه الأوراق الريانة وتسري فيه الحياة رغيدةً من جسد صلد ، وها هو تخنقه هذه الخرقة ويغيظه قضاؤها على معظم إحساسه بما حوله ، كأنما لا يكفيه انقطاع مدد الحياة عنه منذ الاجتثاث.
أشدّ ما يعانيه أنه لن يظل بعد على صلة بالهوام والطيور التي تلجأ إليه لتحصل على متّكأ تنظر منه ، تذكّر،في خضمّ حزنه الجارف، ليلة صعد إليه فيها ثعبان يهوى الالتفاف ، واستعاد كلّ لحظة من الاحتضان الدافئ الذي انتهى مع الصباح.
هبّت عاصفة أثارت رملا يمرق كالبرق على مستوى خفيض ، واصطدمت بساقه الواحدة آلاف من ذرات الرمل ، فتساءل إن كان بيت النّمل الذي يخترق تجويفا في الجذع لم يهدم مع الاجتثاث ، وهل استعدت المخلوقات الصغيرة لهذه الهبات، وخجل قليلا لأنه نسي عهد الصحبة ،فمنذ أدرك ما حوله، والتجويف عامر في الصيف بالمخلوقات الصغيرة الصاعدة إلى كل غصن وكل ورقة ، تتنزّه ، وتدغدغ كل موضع تمر عليه من قوامه.
وبعد وقت يسير هطل المطر ، ثم اشتدّت غزارته ، وتزحزح الرمل الذي غاص فيه رسغه المبتور ، استمتع بهذه الحقيقة التي تخلصه من وضعه المفتعل، وساقه التيار الصغير ،وهو ينتشي بالماء المطيّن الذي يتقلّب فيه ، وهناك عند المنخفض الذي تتسامق فيه شجرة السدر العظيمة دار في الدوّامة قليلا ، وتهلهلت عقدة القماش التي تغطيه فانساب منها في الماء الضحل ، وعاودته حواسه التي تشوّشت ، طرب للخرير ووقع تلاقيه بأوراق يابسة أسقطها البلل من الشجرة ، واستكان معها بجوار السدرة العظيمة ، الجسد الصلد الذي ينتمي هو وكل هذا الغثاء المتفتّت من حوله إليه.
تمت