قيد من ريش
و لما كنت أخاف من الشوارع المظلمة و بلل الشتاء ، و نباح الكلاب الضالة أغلقت نافذتي في وجه الكون و أغلقت بابي وقبعت بحجرتي الضيقة .
كانت خطوات الليل العنيدة .. بليدة .. تزحف إلي شواطيء روحي تمزقها . وكانت زقزقة العصافير الصغيرة تسري داخل روحي السقيمة كلحن ملائكي يصم آذاني عن زمجرة رياح الليل الطويل .
كل شيْ بالحجرة كما تمنيته .. فراشي الوثير .. ملابسي .. مكتبتي التي تضم كل أصدقائي القدامى .. عصافيري الملونة .. ذات الزغب الصغير و الأجنحة القصيرة .. ملاذي الأول و الأخير ، كانت تغني وكنت أحاكيها ألفها بأجنحتي الطويلة ، وكنا نخاف الليل العجوز ، وقطة الجيران المتوحشة و نطير بأحلامنا نشق جدران الظلام ونشد من النهار ضوء المسافر خلف السحب الجامدة . ولكن .. زمجرة الرياح .. وظلام الكون كانا يحولان بيننا و بين النافذة المغلقة .
تنام العصافير . وزفير الليل الحاد , و الأشواك التي زرعتها رياح الشتاء علي وسادتي , و مواء القطة ، كانوا حائلا بيني و بين النوم فأظل مستيقظة و عيناي معلقتان علي العصافير الغارقة في براءتها وعلي النافذة المغلقة .
أنهض من فراشي و وجع سرمدي لا يفارقني أتأكد من إحكام غلق الباب كي لا تتسلل القطة إلي العصافير و تأكلهم .
أدور في المساحة الضيقة المزدحمة أدور و أدور حتى يهدني التعب أتمدد بجوار العصافير و عيناي مثبتتان علي النافذة .
تسلل إلي ضوء فضي ناعم يمس جسدي مسا خفيفا تستيقظ روحي فينخلع عنها ثوب السأم و تتفتح عيون قلبي مبصرة لخيوط الضوء الناعمة وهي داخلة إلي شراييني بلا استئذان و يظل الضوء الحنون يلح علي أن افتح نافذتي وأطل علي الكون برأسي .
لم أستطع إسكات النداء فتحت النافذة ، بريق سحري يسري إلي روحي فتعزف لحنا سماويا .. و تمتليء أوردتي بنغمة دافئة فتوردت وجنتاي الذابلتان فرحت أتنفس أنفاسا عميقة أنظر إلي المدى البعيد ، فنظرت في وجه الشمس و ابتسمت لها ثم خبأتها في أعيني ، دخلت إلي الحجرة الضيقة اصطدمت بالأشياء التافهة تمليء حواسي بلحن أغنية جديدة ينشدها الكون الوسيع ويرددها القلب الظمآن و ينشطر ما بين اللحن الجديد و زقزقة العصافير .
ولما كانت طرقات الليل الباردة أرهقتني .. و ضوء النهار الدافيء ينادين أن افتح رئتي علي الكون الفسيح و أتنسم عبق الحياة . ارتعشت ارتعاشه وردة صغيرة تخبيء في قلبها قطرة ندي و تعلقت عيناي علي النافذة المفتوحة انظر مرة علي خيوط الضوء الذهبية الدافئة .. و علي حجرتي الباردة الضيقة ، و حين كشف لي الضوء عن حقيقة الأشياء الباهتة التافهة ، أخذت أرمي بها من النافذة فليس هناك معني لاقتنائها . تخلصت منها كلها و لكن المساحة مازالت ضيقة . لم يتبق بها سوي العصافير حين امتدت يداي إليها انكمشت و بكت .
ارتجفت من نظرات الحزن و الخوف الكامنة في عيونها ( فبكيت ) رفعت يدي عنها وتراجعت .
ولما كانت العصافير تخاف قطة الجيران التي لا تخشي السير في الظلام و كنت أخاف نباح الكلاب الضالة وبلل الشتاء و أخاف علي العصافير ..
أغلقت النافذة في وجة الضوء ولفظت أذاني اللحن الجديد . و بقينا في الحجرة الباردة نستمع إلي ترنيمة اللحن الحزين .