من داخل غرفة الإعدام
لك يوم يا ظالم .... هل للظالم بالفعل يوم ... وهل سيقتص الله تعالى بقدرته لنا ممن ظلمنا ... قد نتجادل فى هذا المعنى ساعات وساعات ، وقد ينكر بعضنا هذا الأمر ، وقد يقسم بعضنا الآخر على صحة قصاص الله سبحانه وتعالى من كل ظالم ، ووقت الجدل سيقول أحدنا ألا تعرف يأ أخى أنه "إفعل يا بن آدم ما شئت فإنه كما تدين تدان" وسيقول أيضاً "إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته" ونظراً لأن الحوار السابق دار فى أحد الأيام أمامى بين مجموعة من المحامين الذين بحكم عملهم رأوا المظالم وتعرفوا على الظالمين ، إلا أننى ولسبب غير مفهوم إعتصمت وقت هذا الحوار بالصمت ولم أشترك فيه ، وبعد أن إحتدم الأمر بينهم سألنى أحد المتحاورين ... لماذا لا تدلى بدلوك فى هذا الأمر ؟ إبتسمت له وقلت بصوت خافت مبحوح وكأننى أحدث نفسى : يا ويل الظالم ... والله إننى لأشفق عليه من ظلمات يوم القيامة ومن القصاص فى الحياة الدنيا ... لقد باع هذا الظالم آخرته الباقية بدنياه الفانية ، ثم إسترسلت بعد ان إحدودبت إلى الأمام ونظرت بوجهى إلى الأرض: جاء لى أحد المتقاضين متهماً فى جريمة قتل عمدى مع سبق الإصرار والترصد ، وتضافرت الأدلة ضده ، وكان تضافر الأدلة قد أثار ريبتى إذ لا يعقل أن يجتمع هذا الحشد من الأدلة الثبوتية التى تشبه اليقين ضد أحد المتهمين خاصة وأن هذا المتهم كان من الذكاء والحصافة بحيث يسهل عليه تدبير أمر الجريمة – إن كان هو الذى فعلها – بشكل أكثر دقة وأقل خطأ بحيث يتحاشى من خلال تدبيره أن تحاط به الشكوك أو الشبهات ، وظل هذا المتهم يقسم لى بأغلظ الأيمان أنه برئ وأنه لم يرتكب هذا الجرم وأنه لم يفكر ألبتة فى قتل هذا "القتيل" المجنى عليه خاصة وأن المجنى عليه شاب فى مقتبل العمر ولا تربطه بالمتهم ثمة رابطة أو خلاف يدفعه إلى قتله فلا مبرر على الإطلاق لهذا الفعل المنسوب إليه.
ولكل الأسباب السالفة قبلت المرافعة فى قضية هذا المتهم وبجلسة المرافعة طلبت من المحكمة سماع شهود نفى ذلك أن أحد الأشخاص الذين يرتبطون مع المتهم بصلة قرابة كان مع المتهم وقت إرتكاب الجريمة فى مدينة أخرى تبعد عن المدينة التى وقعت فيها جريمة القتل بمسافة لا تقل عن ثلاث ساعات بالسيارة وأن معه الأدلة التى تثبت هذا الأمر ، وأردف أنه على يقين من قدرته على إقناع المحكمة بشهادته هذه.
واستجابت المحكمة لطلب سماع شاهد النفى وأجلت الدعوى لحين حضور هذا الشاهد الذى كانت شهادته تمثل حجر الزاوية فى القضية ، وبالجلسة المذكورة إنتظرت الشاهد على أحر من الجمر ولم يحضر فطلبت التأجيل لآخر الجلسة وأستجابت المحكمة إلا أنه فى آخر الجلسة وصل إلينا من ينعى الشاهد ويخبرنا بوفاته صباح الجلسة فى حادث سيارة بشع إحترقت فيه السيارة مما أدى إلى تفحم جثته!!
ولم يكن من بد سوى المرافعة وترافعت بالفعل وأزعم أننى بذلت قصارى جهدى وفى آخر الجلسة أصدرت المحكمة قرارها بإحالة أوراق المتهم إلى المفتى ثم بعد أن جاء رأى المفتى أصدرت المحكمة حكمها بإعدام المتهم شنقاً ، وتأيد الحكم أمام محكمة النقض ، وقبل تنفيذ العقوبة ذهبت لزيارة المتهم وكلى أسف على مصيره ذلك أنه سيعدم على جريمة لم يرتكبها ، وفى حجرة المأمور عندما إنفردت بالمتهم أبديت له أسفى الشديد وأخذت أواسيه وأشد من أزره ، ويالعجبى !! وجدته رابط الجأش مبتسماً غير آبه بمصيره ، فقلت فى نفسى لعلها لحظات إيمانية اجتاحت مشاعر الرجل قبل تنفيذ العقوبة فقلت له: لقد ظلموك وسينصفك الله سبحانه وتعالى .... ولدهشتى فوجئت به يقول: لم يظلمنى أحد فالحكم صحيح.
فقلت له: أقتلت هذا الرجل فعلاً ؟ .... قال : لا لم أقتله ، كنت بريئاً بخصوص هذه الجريمة ، ولكنى يا سيدى قبلها بعام إقترفت جريمة قتل فقتلت شخصاً كانت بينى وبينه خصومة ، ودارت الشبهات حولى بالفعل ، ولكننى أفلت بسبب شهادة شاهد النفى !! الذى احترق فى سيارته ، فقد شهد زوراً أننى كنت معه فى مدينة تبعد عن المدينة التى وقعت فيها الجريمة بمسافة لا تقل عن ثلاث ساعات بالسيارة ، وبسبب هذه الشهادة تم قيد الواقعة ضد مجهول ، فقلت وقد بدت علامات الدهشة ترتسم على وجهى : وهل الجريمة الثانية التى اتهموك فيها كنت مع الشاهد أم أنه اعتاد على شهادة الزور؟ فإذا بالمتهم يبتسم ابتسامة تقطر خزياً ويقول: لا ... لقد كنت معه بالفعل ، فى هذه المرة كان سيشهد شهادة حقيقية ولكن الله لم يمهله وعاقبه فى الدنيا على شهادة الزور التى شهدها لصالحى من قبل ، ثم عاقبنى الله أيضاً بهذا الحكم فقد أفلت من العقاب عن جريمة قارفتها وسيتم عقابى عن جريمة لم أقترفها !!
وعندما كنت على وشك الخروج من حجرة المأمور بعد الزيارة وقع نظرى على لوحة معلقة على الحائط مكتوب فيها ( كما تدين تدان ... والجزاء من جنس العمل )
ثروت الخرباوى __________________