ليلة آخرى..!
هدوء فظيع .. يخيم على أجواء الغرفة ، وظلام أشبه ما يكون بظلام مغارة... حيث فيها الهدوء ليس إلا كبت لجماح رغبات وأماني ليس لها إلا البقاء تحت سقف ظلامها وبين جدرانها الرطبة ، يتوسط الغرفة فراش قد تناثرت عليه قصاصات من الورق ، على كل قصاصة منها كلمة تحمل في طياتها ألم طفل جائع لا يجد من يُرضعه .. يُطفى نيران الجوع في أعماقه، وبين تلك القصاصات قد تمددت هي، دون أن تدرك بأنها ما أن تلامس النور أطراف فراشها حتى تكون تلك القصاصات بكلماتها أشبه بسكاكين تقطع بجسدها الطري كما اللبوة الجائعة تنهش جسد فريستها دون أن تميز بين جسد الظبية والتمساح.
تقترب الساعة من الثالثة بعد منتصف الليل، وهي لم تزل تأمل أن تنام لترتاح من عناء وتعب لطالما أرهق لياليها.. لكن دون جدوى تحاول .. فوخزات القصاصات لا تدعها تثبت على جانب ، تتقلب ، تتنهد، تخاطب نفسها وتتساءل ما بالكِ..لا تغفين.. ؟ ألستِ تعبة جراء ساعات من الكتابة والتمزيق..؟ ثم ما تلبث ان تعود لهدوئها.. وفجأة تمد يدها لتبحث عن الإنارة.. تشعلها.. تقول لنفسها علي أن لا أنام.. تنهض من فراشها، تقف أمام مرآة هشة صامتة.. تخاطب صورة في المرآة تظن بأنها صورتها، احبه.. نعم لم أحب احداً مثله.. هو فقط من لا أقدر على أن لا أحبه.. اكره ما دونه لا أطيق رؤية سواه.. فقد كان وحده الذي يستحق أن أحبه بهذا العنف، وصار فيما بعد الوحيد الذي سأظل أحبه بهذا الجنون، لكن ما باله يعاند حبي له..؟ تلتفت وراءها.. تمد يدها الى حقيبتها .. تفتحها.. تخرج صورته.. تضمها لصدرها.. ما أروعه من إنسان .. أي هدوء وحزن هذا الذي تحمله في عينيك..؟ أي ألم هذا الذي تخفيه وراء ابتسامتك..؟
تعود للمرآة.. وتخاطب تلك الصورة التي تظن بأنها صورتها.. انظري اليه هذا الذي بين أحضاني.. آه انكِ لا ترينه لأني أكاد أخنقه من شدة لوعتي به.. تمسك بأصابعها الرقيقة أطراف الصورة وتضعها أمام المرآة وتقول للصورة التي لم تزل تظن بأنها صورتها هذا هو.. انظري اليه.. انظري الى عينه.. هنا في ماوراءها تكمن مملكة بؤسي ووحدتي .. ويستمر عذابي المبهم بصمته.. هل تدركين معنى أن يستمر عذاب انثى بصمت..؟ لكن ما دهاك أنتِ الاخرى صامتة..؟ لماذا تصرين على أن تكوني مجرد ظل لحركاتي..؟ هل أنت ايضاً خائفة من أن يستمر عذابي هكذا..؟ فأظل اثقل عليك وانتشلك في كل ليلة من عتمة فيها راحتك ،وباستمرارها نهايتي عتمة مأساوية السواد.. تتحدى في كل ثوانيها رغبات وأمنيات أنثى اهملتها الاقدار كأله تائة عن سرب الالهة.. يهاجر من سماء الى آخر لاهثاً وراء موكب وهمي ليس إلا ظل موكب، لا تفزعي هكذا.. فانتما قدركما أن تعيشا معي هنا بين جدران غرفتي الصماء هذه وقدري أن لا أسمع منكما سوى الصمت.. وكأني لن اقدر إلا أن أمنحكما مع الصمت الحب .. !
أعلم يا .... لكن ما اسمكِ ..؟ منذ سنوات طويلة وأنتِ تعيشين معي هنا.. وفي كل ليلة التقيكِ.. ولم اتذكر ليلة أن أسالكِ عن أسمك هل لك أسم..؟ بماذا أناديك..؟
انتظري قليلاً لا تقولي لي عن أسمك .. دعيني بحدس الأنثى أحزر.. لعل اسمك وسن.. أو ميساء.. لا .. لا.. أظنه مريم .. نعم أعتقد بأنه مريم..!
الظلام لم يزل يغطي مادون غرفتها .. وألحان الرياح الشتوية عندما تلامس أغصان الورود تبعث الحان خافتة .. نازفة.. حزينة تتسلل بهدوء وحذر الى زوايا غرفتها.. تسترخي قليلاً بعد حوارها اللامجدي .. تعود لفراشها.. تضع الصورة في حقيبتها.. لكنها ما تلبث أن تخرجه ثانية تخاطبه.. أ تعلم يا من لم أحب أحداً مثله بهذا الجنون..؟
بأنني أستطيع أن لا أبصر أي شي الا أنت .. وأنني أستطيع أن لا أنزف لأي شيء الا لبعدك.. وأستطيع أن لا أكتب عن أي شيء الا عنك أنت.. وأنني أستطيع أن لا أموت.. وأن أعاند السماء وأقاوم الاقدار .. لكني لا أستطيع لحظة أن أعيش دون أن أردد أسمك مع ذاتي كما تردد أية راهبة فجيعة الخطيئة مع نفسها.. واستطيع ان أمحو كل الوجوه أمام عيني لكني لا استطيع لحظة ان أجد لوجهك الذي يجذبني كل لحظة الى غموض كهوفك بديلاً.. وملاذاً غير أحضاني.. وجهك جرح نازف أظل أعاني من رتابته وحزنه رغم الاعاصير التي أخلقها وأقذفها لتفادي رؤيته.. وجهك لوحة سريا لية أظل أعاني من معيته رغم عبثي المستمر .. اللامنتهي بالالوان التي تئن أنيناً خافتاً بين يدي.. أنت .. دون وجهك كل شيء فيك.. حتى سأمك..ورفضك..وتمردك..وخضوعك.. كل شيء فيك يحاصرني ويثير في رغبة ملحة الى البكاء.. وكأني استطيع ان أكون كل شيء.. في كل مكان وزمان.. لكن ليس بدونك ، ومارغبتي للبكاء الان الا لانك دون كل شيء تستحق ان تدمع عينيي فيك... لا تظن بدموعي.. انها انما كالصلاة اقدمها انا التائهة أمام وجهك .. وقد لا تدرك مأساتي هذه.. قد لا تشعر بمعاناتي التي لاتنتهي.. قد لا تهتم بما يحصل لي عندما ابصر من حولي وجوها تتطلع بلهفة إلي.. فكل وجه يلاحقني يعذبني.. يقتل البسمة في.. ليس لشيء.. فقط لانه ليس وجهك...!
الظلام.. ظلام الليل.. الذي ليس له نهاية لم يزل يحاط بكل شيء.. الوقت قد تجاوز الرابعة والنصف.. وقد لاحت تباشير الفجر وهاهي تسمع أصوات تخرق جدران غرفتها وتؤلمها.. كأنها حشرجة احتضار كائنات لامرئية.. وعويل رغبات تسير نحو الهاوية.. و هاهي قد لاذت لبعض الوقت بالصمت.. صمت مفجع.. صمت رهيب .. صمت طفل لم يوقف بكاءه ونواحه الجوع والملل .. انما صمت أخرسه الألم..!
مازالت الصورة في يدها.. فجأة تشعر بإرهاق.. تعيد الصورة الى حقيبتها.. تحاول أن تنظر الى المرآة.. ترى صورة.. لعلها هذه المرة قد أيقنت اكثر من كل مرة سابقة بأنها صورتها.. تبتسم تحاول ان تعود .. تبحث عن الانارة.. تطفئها..تجد شريطا من الومضات على جدران غرفتها تنظر اليها تتمتم انها أضواء السيارات والمحلات وجدراني أعتادت على سرقتها... تحشر رأسها تحت غطائها.. تتمنى لو تغمض قليلاً عيناها.. لكن ما هذه الاسئلة التي تتقاذف الى ذهنها..؟ همساته الاخيرة.. الجارحة تهدر في كيانها.. تعود .. لتخاطب نفسها..الى متى سأظل أعاني من حبك..؟ الى متى سأظل أعاني من سأمك المتمرد الذي اراه في كل لحظة يتناثر جمرات حارقة بين اظلاعي..؟
كيف لي أن أهرب منك..؟ كم اتمنى لو استطيع على الاقل الآن في وحدتي هذه أن اهرب منك.. فانت لا تعلم ماذا تفعل بي جمراتك الآن.. لكن هل اقدر ان أهرب منك؟ كيف وأنا اقدر على كل شيء ليس فيه انت..؟ أهرب عنك.. أنا... اهرب .. كأنه توقي لأن أخرج من بين جدران غرفتي هذه اليك..؟ لكن اين أنت الآن..؟ صوتك يهدر الآن هنا بين جدران غرفتي هذه.. وكأن صداه يلح علي الخروج اليك.. صوتك.. كم احب سماع أنينه.. كم أحب لو أن انفيه الى أعماقي فلا أدع غيري يسمعه.. كم أتمنى ان ازيح كل الحواجز بين صوتك.. وصدري .. كم أتمنى أن أعصره.. انزفه في رئتي.. صوتك.. أنت.. نفسك التي اشتاق انا لهدوءها اجدها دائماً تشعر وكأنها غريبة في مدني اللاهثة الى اعتناقها.. وكأنك انت غريب اينما تمضي.. غريب في نفسك في صمتك .. في تمردك .. غريب حتى في مدينتك.. بل غريب في وجودك.. لماذا.. الغربة هذه تسكنك..؟ تسكن كل ما هو منك..! الا تقدر ان تجيب حتى عن هذه..؟ أتدعني الى الابد اظل هكذا .. معتكفة أمام أبواب أسئلة لا أجد لصداها.. لأنينها جواباً..؟ أترتاح لرؤية سجودي البدائي الخاشع ابداً أمام غربتك...؟ اتعلم بأن الالم استبد بي ولم اعد قادرة على مواصلة السهر في كل ليلة أخاطب فيها ظلك..؟ الوهن أصابني.. وهدرت كل قواي في الهرب اليك.. اكاد اشعر بوخزات الألم.. المرض.. تذيق جسدي الطري أبشع اللعنات.. هل سأشفى منك يوماً.. ام سيظل مرضي الوحيد هو أني ارفض أن أشفى منك..؟
حاولت ان أتضرع .. أصلي.. اقدم قرابيني.. ونثرت تحت اقدام الآلهة.. كل رغباتي.. وعلقت الورود امام ابوابها.. وجعلت رائحة البخور تخرق سمائها.. فعلت كل ما يمكن ان تفعله قديسة.. وقدمت كل ما يمكن ان تقدمه ناسكة.. علني برضاها أخضعك.. أجعلك بمشيئتها تحتاج الي وتأتي..لكني لم أجني منها سوى أنها ذكرتني بغربتك..لأنها مثلك تشعر بالغربة بين مخلوقات تجهل رغباتها فعدت من جديد ابحر في بحر غرابتك.. ولكني هذه المرة عاتبت الآلهة.. لانها منعت عني الرياح.. فلم اعد ارفع أشرعتي ما دامت الرياح لن تهب، حتى صلواتي.. قرابيني.. لم اعد أقدمها.. فلمن أقدمها مادامت الآلهة ماتت .. ألم تمت..؟ فلماذا اذاً لا تقبل تضرعي ..؟ لماذا لا تعيدك إلى واحتي التي تكاد تجف لبعدك..؟
الظلام.. ظلام الليل يكاد يتلاشى.. الغسق بدأ ينشر تباشيره.. إشراقة ضعيفة تخرق ستائر الغرفة .. تلامس اطراف فراشها.. تحاول ان تخرج رأسها من تحت الغطاء.. تبصر الإشراقة.. وتفجع لقصاصات الورق التي لم تزل متناثرة على فراشها.. تحاول أن تتحسس جسدها... كأنها شعرت بوخزاتها .. تدرك حجم الجراح التي تركتها القصاصات.. تحاول ان تنهض من فراشها.. رغبة في اعماقها تقاوم نهوضها.. لكنها تهمس بصوت حزين ليلة اخرى انقضى ظلامه وأنا ابحث عن طريق اهرب عليه إليك.
8-5-2004