ربما كان للشهرة الكبيرة والمكانة العالية التي بلغها الإمام الشافعي رضى الله عنه في مجال الفقه وصيرورة مذهبه الفقهي أحد المذاهب الأربعة الأشهر في الفقه الإسلامي سببا في عدم قيام دراسات جادة لإبداعه الشعري المتناثر في بطون كتب التراث وتحرى ما قاله الأمام من شعره وما نسب إليه .
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس الملقب بالشافعي فقيه ولغوى وشاعر مقّل ولد بغزة عام 150هـ يوم وفاة الإمام أبى حنيفة فقيل مات إمام وولد إمام وتوفى الشافعي في الفسطاط بمصر عام 204 هـ قال عنه ابن هشام : الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة ووصفه الإمام احمد بن حنبل بأنه من أفصح الناس وكانت فصاحته تلك التي قربته من شيخه الإمام مالك فجعله أقرب تلاميذه إليه . وتمثل الشافعي في قصائده التراث الإسلامي العظيم فشاعت الحكمة في أبياته بل صارت أهم الظواهر الفنية المميزة لشعره إذ أن امتزاج ثقافته الإسلامية مع رقيق مشاعره وتجاربه الحياتية الثرية أثمر عواطف جياشة تنتثر منها المعاني دررا مثيرة في النفس في النفس ما أراد لها الشاعر أن تحس به بل لقد بلغت شاعر يته إلى حد وصل إلى درجة صياغة الفتوى شعرا ويروى ياقوت الحموي أن رجلا جاء الشافعي برقعة فيها كتب: سل المفتى المكي من آل هاشم إذا اشتد الوجد بامرئ ماذا يصنع ؟
فكتب الشافعي أسفل الرقعة : يداوى هواه ثم يكتم وجده ويصبر في كل الأمور ويخضع
فأخذ الرجل الرقعة وعاد إليه وقد كتب : فكيف يداوى والهوى قاتل الفتى وفى كل يوم غصة يتجرع
فكتب الشافعي ردا : فإن هو لم يصبر على ما أصابه فليس له شئ سوى الموت انفع . وعلى الرغم من اتجاه الشافعي في شعره إلى اللون الحكمى وتمثله التراث الإسلامي العظيم إلا أن فصاحته وحرصه على انتفاء كل ما هو سلس من المعاني والألفاظ فى نسيج شعوري على نحو فني يجعل قارئه لا يشعر بأن ما أمامه شعر وعظي وحكمة ويتفاعل مع أبياته يستوي في هذا التفاعل كون القارئ مسلما أو غير مسلم فالشافعي عبر في قصائده عن معان سامية تتفق حولها كل الديانات ومن ذلك قوله فى الصبر على الشدائد :
دع الأيام تفعل ما تشاء ** وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي ** فما الحوادث الدنيا بقاء
وقد عبر شعر الشافعي عن مشكلات الإنسان في فلسفة بسيطة مشتقة من صميم الموروث الثقافي المتمثل في القرآن الكريم والحديث الشريف ولا يكتفي بعرض المشكلة لكنه أيضا يدلل على رأيه بمثل يعزز قوله ومن ذلك حين لمس استهانة من الناس في الدعاء :
أتهزأ بالدعاء وتزدريه ** وما تدرى بما صنع الدعاء
سهام الليل لا تخطئ ولكن ** لها أمد وللأمد انقضاء
ونجد الدعوة إلى مكارم الأخلاق والترفع عن الصغائر مبثوثة في ثنايا أشعار الشافعي :
لما عفوت ولم أحقد على أحد ** أرحت نفسي من هم العدوات
أنى أحيى عدوى عند رؤيته ** لأدفع الشر عنى بالتحيات وقوله أيضا :
إذا سبني نذل تزايدت رفعة ** وما العيب إلا أن أكون مساببه
ولو لم تكن نفسي على عزيزة ** لمكنتها من كل نزل تحاربه
وقوله :
إذا نطق السفيه فلا تجبه ** فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه ** وإن خليته كمدا يموت
ونراه يدعو إلى الصداقة الحقة التي ترعى حقوق الله والعباد وتتغاضى عن عثرات الصديق وتظل قوية يسرا وعسرا :
أحب من الإخوان كل مواتي ** وكل غضيض الطرف عن عثراتي
وقوله :
إذا لم أجد خلا تقيا فوحدتي ** ألذ وأشهى من غوى أعاشره
وأجلس وحدي للعبادة آمنا ** أقر لعيني من جليس احاذره
وقوله
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا ** فدعه ولا تكثر عليه التأسفا
ويستاء الشافعي حين يرى الناس لم يعودوا يضعون الأديب في مكانته اللائقة به من التكريم المستحق فيقول :
أصبحت مطرحا فى معشر جهلوا ** حق الأديب فباعوا الرأس بالذنب
والناس يجمعهم شمل وبينهم ** في العقل فرق وفى الآداب والحسب
ويؤكد فضل العلم وضرورة طلبه في أي مرحلة عمريه فلا عمر محدد لطلب العلم فهو متاح أمام كل الأعمار :
أصب على مر الجفا من معلم ** فإن رسوب العلم في فقراته
ومن لم يذق مر التعلم ساعة ** تجرع ذل الجهل دون حياته
ومن فاته التعليم وقت شبابه ** فكبر عليه أربعا لوفاته
وذات الفتى والله بالعلم والتقى ** إذا لم يكونا لا اعتبار لذاته
وكانت مصر القبلة التي يتوق الشافعي إليها وظلت رغبته في زيارتها والإقامة بها تتملكه وقيل انه انسد حين خرج من مكة المكرمة متوجها إلى مصر :
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ** ومن دونها أرض المهامة والقفر
فوالله لا أدرى أللفوز والغنى ** أساق أليها أم أساق إلى القبر
وفى مصر مكث الشافعي مستروحا بين أهلها الذين أحبوه واحبهم وفيها ظل حتى جاء حينه فدفن بها عام 204 هـ وقيل إن هناك بيتين من الشعر كان دائم التروح بهما:
يريد المرء أن يعطى مناه ** ويأبى الله إلا ماأرادا
يقول المرء فائدتي ومالي ** وتقوى الله افضل ما استفادا
رحم الله الشافعي الأمام والفقيه والشاعر إذ اخلص في محبة ربه فأحبه عباد الله ولو لم يكن ما تركه من فقه وشعر وحسن سيرة كافيا لكفاه عند دارسيه قوله : ما نظرت أحدا فأحببت أن يخطئ ولعل هذا القول كان مرشدا للغوى والشاعر محمد بن دريد ليرثيه بقوله
ألم تر آثار ابن إدريس بعده ** دلائلها في المشكلات لوامع
مناهج فيها للهدى متصرف **مناهج فيها للرشاد شرائع
منقول