• سلسلة من الفضة .
قصة بقلم /
نهاد صلاح معاطي .
ها أنا ذا ابتعد . ابتعد عن كل شئ . عن أبي . عن أمي . عن أخوتي . عن ذكرياتي ..ذكرياتي الحزينة و ذكرياتي السعيدة . عن وطني . عن مخطوبتي التي أحبها كثيرا عن أختي التي على وشك الوضع .
يالي من أناني و لكنها فرصة لا تعوض . فرصة العمر التي ينتظرها أي جيولوجي و لكن ما فائدة أن أحقق مجدا أفقد أمامه كل شئ جميل ثم تنهد و قال : لا أعرف ما الذي حدث لي حين سمعت هذا العرض المغري .. بعثة سفر إلى الخارج وقعت سريعا دون تفكير دون أسأل حتى على اسم المكان الذي سأذهب إليه و لكني أفقت حين عدت إلى البيت عندما رأيت مخطوبتي و أختي و أمي . يا لي من غبى . كيف أفعل شيئا كهذا دون التفكير في الأمر .
جلست وحيدا في الشرفة أفكر في أنانيتي و تفكيري في ذاتي فقط لتأتي مخطوبتي قائلة : لم تخطأ أبدا . فكر في الأمر من زاوية أخرى فكر والدتك المريضة من أين ستجلب لها ثمن الدواء فكر في أخوتك . فكر في أبنائنا فكر في تحقيق المجد و الحلم الوردي الكبير الذي مضينا سنوات و سنوات نرسمه على رمال الشاطئ لن يبنى و يصبح واقعا ملموسا إلا بسفرك .
_ و لكنهم عشر سنوات . عشر سنوات من دون إجازة واحدة و قد تمتد إلى أكثر من هذا قد تمتد إلى عشرين سنة أو ثلاثين أو إلى الأبد إنه أشبه بالمنفي .
_ ستمر بسرعة و لن تشعر بها . فهم لا شئ بالنسبة لسنوات طويلة هنا بلا فائدة .
لم أستطع الرد و لكني ابتسمت و قد غرقت عيناي بالدموع و لكني لم أبكي فقد كنت كالمسحور تماما .
ودعت الجميع . ايديهم لازالت تلوح أمام عيناي " عد إلينا سالما . عد إلينا سالما " و بالطبع قالت لي أمي : لا تنسى أن تتناول إفطارك في الصباح . لا تترك نفسك تتعرض للبرد . خذ بالك من نفسك . اهتم بنفسك جيدا ثم غرقت عيناها بالدموع و هي تقول : لا تنسى الخطابات .
احتضنتها و قبلتها لتضع حول عنقي سلسلة فضية فقبلتني و همست : اعتن بنفسك جيدا بني . لا تتأخر .سأنتظرك .
ودعت الجميع . ثم توقفت عند مخطوبتي حيث عجز لساني عن النطق لأجدها تمد يدها و تعطني ورقة صغيرة كتب عليها "لا إله إلا الله " .
نظرت إليهم النظرة الأخيرة و انطلقت لأبدأ حياة جديدة خبأها لي القدر و لازالت يداي تلوح مودعة .
لم انتبه إلا على صوت المضيفة معلنة الوصول .
هبطت من الطائرة و يبدو انهم اعدوا و هيئوا لي كل شئ فوجدت من في انتظاري ليقودني إلى معسكر العمل .
ذهبت إلى هناك . ما هذا ؟ أهذا هو مقر العمل ؟ مكان كئيب . الجبال و الصحراء و اللون الأصفر يحيط بي من كل جانب و كأنني غارق فيه .السماء تغطيها السحب و الضباب و الجو عاصف و على وشك الإمطار رغم أننا في فصل الصيف . لا توجد نباتات . لا بل توجد بعض النباتات الشوكية على امتداد الجبال .
اتخذت طريقي لأجد أحدهم يقول لي : اجلس هنالك و لا تزعجنا.
فوجئت بهذا لم يكن هذا هو الاستقبال الذي رسمته في مخيلتي توقعت أن أجدهم يرحبون بي في حفاوة و لكني وجدت النقيض.
فهذا ينظر في احتقار و الآخر ينظر في غيرة و هذان يتهامسان ثم يضحكان . كم اكره تلك النظرات . اكره هذا المكان . أجل اكرهه . اكرهه من قبل أن أبدأ العمل . يكفي أنه أبعدني عن أهلي و اسرتي و .. و مخطوبتي .
مكان كئيف يعلوه صمت حاد و لا أثر للحياه .
ما هذا ؟ ما هذا الذي حدث لي ؟ ذهبت للعمل و عملت بجد كبير بذلت مجهود خرافي . اكتشفت نتائج مذهلة .
مر الأسبوع الأول كالأسبوع الثاني و لكن جرت بعض التطورات فقد تصادقت مع شخصين فوجئت أنه مكث في هذا المكان لعشرين عاما كدت أسحق . هنا ؟ !
كان لديه الكثير أجل . قال لي الكثير هو نفسه كان حكاية رواها لي مثلما روى لي الكثير .
كان رجلا طيبا وجهه هالة من نور ياله من رجل طيب روى لي كيف تتغير النفوس هنا فتكون صورة من هذا المكان القاسي فهناك من تحول إلى ذاك القلب البارد الذي لا يشعر فقد كان يعرف رجلا بى هنا سبعة و عشرون عاما كان يتحدث دائما إلى عائلته و يكتب لهم هناك ثم بدأ يتحول إلى الصخر الذي حوله لدرجة أنه لم يكتب لأسرته لمدة خمسة و عشرون عاما و حين أرسلت إليه ابنته تسأل عن حاله كتب لها بعد عامين ليخبرها أنه بخير .
لم أصدق فلا يمكن أن تتغير النفوس بهذا الشكل إلى صخور و أحجار لا . لا يمكن .
بالطبع لن أصبح مثلهم لن اتكيف مع هذا المكان أبدا أنا أكرهه . أكرهه .
أخذت أعمل بجد طوال الوقت أتمنى أن ينتهي العام ليأتي العام الذي يليه فالعام الذي يليه فالذي يليه . الوقت يمر ببطئ شديد لم أمض غير خمسة أشهر فقط . لا زال هناك ألف خمسمائة خمسة و سبعين يوما و ربما أكثر من يدري قد يرفضون طلب الإجازة .
على الرحيل . و لكن كيف ؟ كيف ؟ أشعر أنني بداخل سجن مظلم كئيب لا مخرج له موصد بباب حديدي مفتاحه قد صدأ . خنقت بالبكاء فدفنت وجهي بين ذراعي و أجهشت في البكاء .
جاء اليوم التالي أخيرا . لا يوجد غير شعاع ضئيل من ضوء الشمس يتسرب من بين السحاب الكثيف الضخم الذي يلبد السماء فملأالدنيا كآبة أكثر مما هي عليه .
تقابلت مع صديقي ليروي لي حكاية من حكايات العمر الذي أضاعه و أمضاه هنا فنحاول بها قضاء الزمن الذي عاندنا و لا يريد أن يقلل عدد الأيام المتبقية . فيروي لي حكاية السيد الذي ترك أبناؤه و هاجر ليجلب لهم المال كي يكملوا دراستهم و لكنه يفاجأ بأن البرود قد استولى عليهم و لا مكان لأى انفعال في أعصابهم فيجلس هذا نادما باكيا على ما فعل .
مت هذا الجميع يفقدون قلوبهم و يفقدون أقاربهم و يفقدون كل شئ يا له من شئ فظيع . كم أكره هذا المكان . أكرهه .
مضت سنتان من المدة المحددة لا زال هناك الكثير .
تصادقت على شاب لم يقضي هنا إلا نصف المدة التي قضيتها . ربطت بيننا صداقة حميمة قوية . استولى الاشتياق للأسرة على قلب هذا الشاب . بعد هاتان السنتان فأصر على قطع إجازة و لكن الجميع اكدوا له أستحالة هذا الأمر و لكن مهجته كانت قد التهبت . فاستطاع قطع إجازة و سافر إلى الوطن .
اقتدت بصديقي و قررت قطع إجازة لأرى مخطوبتي التي اشتقت لها و لم أعد أستطيع احتمال بعدي عنها و كذلك لأرى ابن أختي الذي لا بد و أنه قد أتم السنتان و بينما أنا غارق في الإعداد و التجهيز للسفر إذ أفاجأ بالهاتف يرن ... فإذا الخبر أن صديقي قد مات .
استولى على الذهول لا . لا يمكن . لابد أن هناك خطأ ما . لايمكن . لا يمكن . كم أكره هذا المكان . أكرهه . ثم أغمي على و قد فقدت وعيي .
أخذت فترة طويلة حتى استوعبت ما حدث ثم عاودت العمل من جديد ثلاث سنوات . ثلاث سنوات و أعود من حيث أتيت . لأترك العذاب الذي اقحمت نفسي فيه .
مر العامان الآخران ببطئ شديد كم كبرت فيهما . أجل لقد كبرت فيهما كثيرا ... وقعت عيناي وسط حفرتين عميقتين داخل وجهي الذي اصفر و صار جزءا من تلك الصحراء السحيقة .
لقد انهكني التعب . ها هو عام واحد .. عام واحد أخير . أجل عام و استيقظ من هذا الكابوس الأسود .
و هنا وقف لدقائق لينظر إلى ما حوله جو هادئ . مكان خال من الضجيج و السباب و زحام السيارات و شمس رائعة مختفية مخنوقة بين و وراء الضباب و السحاب الرائعين .. يا له من مكان بديع . أجل مكان بديع . ماذا .. مكان رائع ؟
أجل مكان رائع جميل يستطيع الإنسان أن يعيش فيه بهدوء بعيدا عن ضوضاء المدينة و ضجيجها و صراخ السيارات .. كم ظلمت هذا المكان بسبب الغربة و المواقف الصعبة السيئة و لكن ما ذنبه هو ؟أجل .. حين أتزوج سآتي بأسرتي و أولادي لنعيش هنا أجل هذا المكان الساحر الرائع البديع . ثم يسكت قليلا يبدأ في الابتسام ثم يسكت قليلا و يبدأ في الابتسام حتي يتسع فمه عن آخره ثم يبدأ يضحك ضحكات هيستيرية بعدها يقع على الأرض و قد غطى شعره البياض ثم أجهش في البكاء و قد تلألأت في يده سلسلة قديمة من الفضة .
بقلم/
نهاد صلاح معاطي