سعي لتأسيس نظرية للقراءة الأدبية
عبد الملك مرتاض ( ناقد وأستاذ جامعي من الجزائر)
http://www.nizwa.com/volume8/p58_72.html
لقد مارسنا القراءة الأدبية زمنا متطاولا فألفيناها عسيرة شاقة،ومهولة معتاصة. وما تراه من جمال نسجها، وبهاء عرضها، أو ما قد ترده كذلك، لا يتأتى إلا بشيء يضارع الولادة القيصرية. ولا ديار يستطيع ادعاء سواء ذلك. وما ذلك إلا لأنها ضرب من الكتابة حتما، وكل إبداع لا ينبدع إلا بعسر وجهد.
وعلى الرغم من أن تجربتنا في مجال القراءة الأدبية تتوزع على زهاء عشرة أعمال: بعضها يتناول نصوصا من بعض أجزائها، ومعظمها يعالج نصوصا أدبية بجذاميرها وحذافيرها.. فإننا لما نستقر على قراءة بعينها: نقف لديها ولا نعدوها.ونعتقد أن ذلك لا يتأتى إلا يوم أن يترفانا الله. أما ما دامت المعرفة تتقدم بنا، وما دمنا نحن ننشد امتلاك مزيد من هذه المعرفة وما دام لنا عقل يلتمس الأفضل، وقريحة تشرئب الى كتابة الأمثل، فلا، لا!
والقراءة، لدينا قراءات فكل نص يفرض إجراءاته لدى إخضاعه لبعض القراءة ؟ ولكن أهم أشكال هذه القراءات اثنتان: قراءة النص الشعري (وهو الموضوع الذي نخوضه في هذه المقالة )، وقراءة النص السردي ؟ونحن لا نزال نميز بين الشعر والنثر على الرغم من أن بعض المتحذلقين الحداثيين يحاولون جهدهم أن يثبتوا للناس أن النص الأدبي واحد: فلا هو مشعور، ولا هو منثور.. ومع أننا نتفتح لقبول بعض هذا السعي إلا أننا نرى ذلك قد يكون مشروعا للمستقبل. وازالة الحدود بين هذين الجنسين الأدبيين لما يأن..) وربما إذا أردنا أن نتحدث عن نظرية عامة للقراءة ونحن عرب مسلمون نعيش في دار الإسلام - فعلينا أن نضيف قراءة ثالثة هي قراءة النص المقدس، وهو ينصرف هنا إلى القرآن العظيم الذي كنا اختصمناه بكتاب حللنا فيه سورة الرحمن.. وقد تكشف لنا من خلال خلاصنا الطويل لقراءات النصوص شعريها ونثريها فصيحها وشعبيها (نص لأبي حيان التوحيدي - نص من ألف ليلة وليلة - نصوص من المقامات: السيوطي والهمذاني - نص لبدر شاكر السياب - نص لمحمد العيد الى خليفة - نص لنجيب محفوظ (زقاق المدق )-نص (للمقالح..) أن القراءة أحادية المستوى - مهما دقت إجراءاتها، واكتملت أدواتها - لا تستطيع أن تؤدي كل ما ينبغي أن يؤدى مما في النص من قيم فنية، ومفاتن جمالية، ومكامن أدبية.. وهذا هو موطن الخلاف الجوهري بيني وبين كثير من القراء الحداثيين العرب (كمال أبو ديب. خالدة سعيد - يمنى العيد - عبدالسلام المسدي - عبدالله محمد الغذامي - محمد مفتاح - صلاح فضل - ونعتذر لمن لم نذكر أسماءهم..) والحداثيين الغربيين (رولان بارط - قريماس - كلود ليفي سطروس - فرانسواز قيون - جان كوهين - أندري ميكائيل - ومن لم نذكر من هؤلاء أكثر..) الذين كثيرا ما يتناولون النص الأدبي تناولا من مستوى واحد فيقعون في شيء من المحظور. وكأني بسعيهم وهو يشبا فعل من يسلط الضياء على زاوية واحدة من بناية جميلة، ضخمة، شامخة، ماردة، فان الضياء المسلط عليها لن يشمل إلا جزءا واحدا من أجز ائها. بينما نحن فتمثل النص الأدبي بناية جميلة قائمة على دعائم عالية حتى كأنها معلقة، وهي تقع في مكان مظلم، ولكي نلم على كل أجزائها وزواياها علينا أن نضع من حولها مصابيح كاشفة تمدها بالنور من تحتها ومن فوقها، ومن خارجها ومن داخلها: حتى يبدو لنا كل ما فيها من تحف ورياش (القسم الداخلي)، وحتى يبدو جمال هندستها وعناصر تصميمها: لونا وشكلا وهيئة (القسم الخارجي).. نقرأ نصا أدبيا من مستوى واحد لم قراءة أحادية الاجراء) كأننا لم نأت شيئا وكأننا لم نزد على تفتيح الشهية، أو تهييج قرم النفس للقرى (ونحن هنا لا نبغي الى الحديث عن القراءات المذهبية الأيديولوجية التي بعضها نفساني، وبعضها اجتماعي، وبعضها بنوي وبعضها الآخر سيمائي.. فإنما تلك أمور أخرى..) وانما نريد أن نتحدث عن مستويات القراءة داخل مذهب واحد أو مدرسة واحدة.
فعلينا إذن أن نعمد إلى إنشاء مستويات للقراءة عبر المدرسة الفنية الواحدة إذا أردنا أن نزدلف من استنزاف عطاءات النص وهي غير محدودة، وسخاءاته الثرة وهي غير مجدودة.
ومما تكشف لنا، وليتمخض حديثنا منذ اللحظة إلى النص الشعري، وعبر نظام القراءة المتعددة المستويات، أن النص الأدبي - كيفما كان جنسه - هو بعرض أن يمنحك ضمن هذه المستويات المتعددة وجوها من الفن والجمال والمتاع كلها يسهم في تسليط الضياء وكلها يفضي إلى زيادة في الكشف والتعرية حتى لا يكاد شيء يبقى فيه خفيا إلا تجلى ولا معتاصا إلا أنقاد ولا غابرا إلا حضر، ولا بعيدا إلا ازدلف ولا غامضا إلا وضح ولا مظلما إلا أضاء.
وفيما يلي عرضا لبعض إجراءات قراءاتنا.
تفكيك اللغة أو المستوي اللغوي:
وهنا نستعمل التفكيك في معنى ينصرف الى حل مفردات اللغة ونثر ألفاظها، إما بناء على معانيها المتقاربة (وهذا إجراء كان جاءه سطروس وتابعه بارط في قراءة سارادين، ولكن بصورة غير مباشرة: أي أن الثاني لم يستنتج كالأول) واما بناء على اعتبارات أخرى. وسعينا هنا نحن لا يتمخض لأن نستنتج من اللغة وما تعطيه، وانما يتمخض اللغة من حيث هي مادة يستعملها الكاتب في كتابته كالألوان التي يصطنعها الرسام في لوحته.ومثل هذا السعي في قراءة نص شعري سيجعلنا نلم بالمادة اللغوية الحقيقية التي اصطنعها الناص في نسج نصه (سيتضح ما تكرر من الألفاظ في تحديد مقدار المادة اللغوية المكتوب بها).
نحن إذن نصطنع هنا "مصطلح" التفكيك بمعنانا الخاص، لأن التفكيك الذي يراد له الناس إنما نطلق عليه نحن "التقويض"، إذ يتعلق الشأن هنا فعلا بتفكيك أجزاء لغة القصيدة لمعرفة طبائعها، ثم إعادة ترهيبها كما كانت من زي قبل في بنيتها النسجية الأصلية. أما التقويض فهو هدم واقامة بناء على أنقاضه بالضرورة.
واللغة الشعرية: هذا العالم الجميل، الشاسع الأرجاء والكامن في النص الشعري، لا يكشفه لك ميزان العروض، ولا تشبيهات البلاغة ولا استعاراتها ولا شرح ألفاظه الغريبة (إذا كان قديما -وقد رأينا أن القراء الأقدمين كانوا يأتون ذلك في أساسيات قراءاتهم "المرزوقي - التبريري - الزوزني - البطليوسي - ابن سيدة.." ولا تخريج إعرابه الغامض "أبوعلي الفارسي في تخريج الأبيات مشكلة الإعراب " ولا نثره "وتحويله الى كتابة نثرية " فعل كثير من القراء القداس والمحدثين أيضا..) وانما أن تقسم هذا النص قطعا قطعا، أو أبياتا أبياتا، ثم تخضعها الى قراءة مجهرية شاملة بحيث تكون لها القدرة القادرة على التسلط على معظم الأجزاء والعناصر والخفايا والطوايا والمعتاصات فتختار القراءة المستوى الذي تبتديء منه (يتوقف ذلك على ذوق القاريء وبرا عته الإجرائية من وجهة، وعلى طبيعة النص وبنيته الفنية من وجهة أخرى). وليكن مثلا المستوى اللغوي فينظر القاريء في طبيعة اللغة الفنية التي نسج بها الناص نصه، ويمكن له أن يفك المعجم اللغوي داخل النص المطروح للقراءة ليتكشف له ما المواد اللغوية التي وظفها الناص لدى نسجه له ؟ وهذه اللغة، تشبه في حقيقتها، طبيعة الأصباغ التي لون بها الراسم لوحته فاغتدت بديعة مندمجة 0منسجمة.. فمن الشعراء من يعشقها ويلاطفها فتعطيه كيف يشاء: فيبدع بها ويحلق، ولكن منهم من يغافصها ويشاكسها ويعانقها ويعاندها ويشاغبها: فتعتاص عليه ولا تنقاد، وتدبر عنه ولا تقبل، فتجيء لحت بته الشعرية كالثوب الرديء المرقع: لا جمال ولا بهاء، ولا ذوق ولا تدبير.
إن حسن التعامل مع اللغة سعي أساسي لدى المبدع، ولدى القارىء الذي بدون امتلاكه، هو أيضا ناصية اللغة وتحسس عطاءاتها اللطيفة الشفافة لا يستطيع أن يبلغ مما يريد، ما يريد. ولقد ينشأ عن ذلك أنه لا يستطيع أن يبلغ قارئه، هو أيضا، ما يريد: فيسقط في الحرمان، ويكون كصاحبة النعامة، كما تقول العرب.
وسيكون هذا المستوى بمثابة المقدمة الفنية التي تكشف للقاريء - المحلل - عما يكمن في هذا النص من أفاق فنية توحي اليه بمستويات أخرى للقراءة.
المستوى الحيزي:
ويمكن للقاريء أن ينزلق الى مستوى ثان، باجراءاتنا يتجسد خصوصا في التماس ما نطلق عليه "الحيز" في النص المقروء وهو إجراء من تأسيسنا، إذ لم نصادفه لدى قراء غربيين ولا شرقيين. وتقوم فلسفة الحيز لدينا على أن معظم العناصر اللغوية (السمات ) حاملات للمعاني الحيزية. وقد ينشأ عن هذا السعي أننا نقرأ النص المطروح للتحليل قراءة بهذا الإجراء فنلتمس،مثلا في الشجرة ما يكون كامنا فيها من أحيان عجيبة. إنها تحت كل اعتبار تمنحنا حيزا معلوما. ولا مناص حينئذ من تعويم هذه السمة في السياق الخارجي للنص حتى يمكن تأويل كل الأحيان الممكنة الكامنة: سواء كانت أمامية أم خلفية، فبناء على استعمالها في النص المقروء يتبين لنا هل هي تحيل على شجرة مثمرة أم على شجرة عقيم ؟ وهل على شجرة كبيرة أم على شجرة صغيرة ؟ وهل كانت الغاية في نسج النص منصرفة الى حيزها الأعلى، أم الى حيزها الأسفل ؟ أي هل كان القصد منها ظلالها بما ورفت أم أغصانها بما التفت ؟ وهل كانت الريح ساكنة فيكون لها حيز ثابت، أم هائجة فيكون لها حيز شديد الحركة، أم رخاء فيكون لها حيز بطيء الحركة ؟ وهل كان الزمن نهارا ومشمسا، أما نهارا ومغيما، أم ليلا ومظلما، أم ليلا ومقمرا؟ (والزمن هنا يتكامل مع الحيز ويتضافر معه لتعرية النص والكشف عن مكامن طواياه..) وهل كانت هذه الشجرة قرونية، عتيقة، طالت أغصانها، وتجذرت جذورها وامتدت فروعها في السماء -أفقيا وعموديا - أم كانت شجرة ناشئة فتية لا تبرح تقاوم الطبيعة من أجل أن تمتد في أعماق الثرى بأواخيها؟ أم كان الزمن حياديا لا هو ليل ولا هو نهار، ولا هو صبح ولا هو مساء، ولا هو صحو ولا هو سحاب: فيكون الحيز متمخضا للإطلاق والتوسع. ولكن مثل هذا نادرا ما يحدث.
إن الحيز، كما ترى، ليس كامنا في مثل هذه السمات اللغوية كمونا غنيا فحسب، وانما نلفيه يتنوع ويتجدد عطاؤه بناء على ذكاء القاريء وقدرة قريحته على اختراع الأبعاد الحيزية الكامنة فيه.
وكما ينصرف الحيز، في تمثلنا، الى الامتداد، فهو ينصرف الى امكان اتخاذ الأحجام (هل هي ضخمة أم ضئيلة ؟ ثم علينا أن نتصور حجمها في حد ذاته وهل هو مستدير فقط، أم يتخذ له أشكالا أخرى ثانوية كأن يكون من تحت مستديرا أو شبه مستدير، ويكون من فوق منكسرا؟ وهل هو مستدير من ضر، العمامة الجزائرية والسودانية، أم هو من نوع الشكل الهرمي الذي يبدأ من تحت عريضا مستديرا ولكنه لا يزال يتضاءل في الفضاء الى أن يفتدي مجرد نقطة أم هو من نوع الشكل المستطيل الذي يقوم من فوق الشجرة حين تشذب على نحو معلوم بيد صناع،أم هو من نوع الشكل المربع أو المتبدى على نحو ذلك للعين على الأقل، الذي قد يتشكل بفعل مشذب بارع...؟) كما ينصرف الى الامتدادات التي تتخذها الخطوط والهيئات والأشكال المختلفات كالطرقات، والوديان، والثنايا، والجداول، والأمواج والسحب بديعة الأشكال، والأدخنة المتصاعدة (من التنانير في القرى، ومن المعامل والشاحنات في المدينة. والحيز من الضرب الأول شاعري (مناظر الأدخنة وهي متصاعدة من بيوتات القرى المتجاورة في المساء فترى لها مشاهد حالمة عجيبة )، بينما الحيز من الضرب الأخر دماري تلويثي خانق هالك. ولا سواء دخان يصدر عن احتراق الحطب الطبيعي ودخان يصدر عن احتراق مواد خانقة سامة ).
وكل ما يمكن أن يرسم لدينا رسما، أو يلمس لمسا، أو يبصر بصرا، فهو قادر على أن يكون تحت سلطان الحيز. كما ينصرف الى الأوزان والأثقال التي تتخذها هذه الأشكال الهندسية المتنوعة، بل التي لا حدود لها، حين تتشكل عبر حيز ما.
وكان الحيز قبلنا (وكثيرا ما يطلق عليه أو على ما يقترب منه مصطلح "الفضاء" وقد رأينا أن ما نريده نحن من وراء مفهوم "الحيز" لا يسعه بأي وجه مفهوم "الفضاء" الذي نعده قاصرا عن أن يقدر على احتمال ما نريده له أن يحتمله..) انما يتخذ إجراء في قراءة النصوص السردية (الرواية خصوصا)، لا النصوص الشعرية، بينما نحن توسعنا في استعمال هذا المفهوم،ودققنا من دلالته التي كانت متلابسة مع مفاهيم أخرى مثل المكان الذي نختصه نحن بالحيز الجغرافي الحقيقي، والفضاء الذي نريد به الى كل ما هو فراغ أصلا كما يدل عيه أصل وضعه اللغوي (والحق أن هذا المعنى يطلق أيضا على الحيز الجغرافي الحقيقي حيث إن تعريف "الفضاء" في بعض المعاجم العربية هو "المكان الواسع من الأرض "، بينما نفخنا في لفظ "الحيز" معاني جديدة حيث إنما نريد به الى كل الامتدادات والأبعاد، والأحجام والاثقال، وكل الأشكال المتشكلة على اختلافها وهو لا يمتنع لدينا بحكم هذه التوسعة التي أجريناها عليه، من أن ينصرف اليه مفهوم "الفضاء" لدى المحللين الحداثيين الذين يقفونه على المكان وحده في الغالب. فيشمل كل ما يتحرك، وكل ما يتحرك أيضا من جمادات، وكل ما هو اتجاه وامتداد،وكل ما هو قابل للوزن، وكل ما هو حامل للثقل، وكل ما هو بعامة أهل للتشكل على شكل ما، وقابل للتحرك على نحو ما، وقابل للنتوء والتميز عن أصله على وجه ما.
وأكثر من ذلك إننا اهتدينا الى شيء من الحيز زي علاقة بأصله فأطلقنا عليه الحيز الخلفي وفي هذه الحال يفتدي الحيز الأصلي البادي المدرك "الحيز الأمامي". وربما كان الحيز الخلفي أغنى من منوه الحيز الأمامي وأرحب رحابة، وأوسع سعة، وأبعد بعدا وأكثر امتدادا لقابليته للقراءة الايمائية القائمة على التماس الشيء لمجرد وجود علاقة دالة عليه ومفضية اليه.
فإذا ذكر ذاكر لفظ شجرة مثمرة، وفي مألوف متداولات الحضارة الواهنة فإن حيز الشجرة يكون هو الأصلي. ولكن لا يمتنع من أن يكون له حيز آخر خلفي يجب أن يتمثل في جملة من المظاهر الحيزية التي لا يمكن انكارها: لا عقليا ولا خياليا، مثل:
1- ان الشجرة تنبت، هي أيضا في حيز. وهذا الحيز يجب أن يتسم بشيء من الرطوبة، أي أنه حيز ترابي، لا حجري مبلل أو رطب، وهذا الحيز يتسم بالأواخية بحيث لو كشفت عنه لألفيته يمتد نحو الأسفل في أشكال هندسية تمثل ما يشبه الشبكة من الجذور الضاربة في العمق عموديا وأفقيا، وقل إن شئت في أشكال عمودية طورا، ومائلة نحو الأسفل طورا آخر. فالحيز الأعلى الذي يقوم على أصل الجذع -أو على الجذع الأصلي الذي تتفرع عنه جذوع فرعية - يتخذ شكله في انهواء، على حين أن الحيز الأسفل الذي كان أصلا لحيز الجذع العمودي يتخذ شكله، على الحقيقة والفعل، في أعماق الثرى ولا أحد يستطيع أن ينكر علينا هذا التصور للحيز الخلفي، إذ لو أنكره علينا لكان كمن أنكر أصل الشجرة نفسه، وأنها تخضر في الفراغ وتقوم في الهباء، وهذا أمر مستحيل التصور.
2 - إن الشجرة لا تخضر وتتجذر جذورها إلا بفعل فاعل هو غارسها والقائم على رعاية فسلها باحتفار حفرة لها أو له أولا، ثم بالسقاية ثانيا، ثم الرعاية والمحافظة بدفع العابثين والمخربين والحيوانات التي قد تجتثها اجتثاثا أو تقضم ورق أغصانها فتتأذى من ذلك وتذبل، ثم تتيبس.
واذن فهناك حركة حيزية خلفية هي التي كانت وراء الحيز الأمامي فهو ليس إلا نتيجة، أو ثمرة لحركات أو أنشطة حيزية خلفية، أو خارجية، لولاها لما كان هو أصلا.
ويندرج هذا التصور بحذافيره ضمن ما نطلق عليه مصطلح "الحيززة "، أي النهوض بإفراز المظاهر الحيزية وانتاجها، ولكن ليس بالمفهوم القريماسي (2)، كما ترى، فماذا ترى!؟.
ولقد جعلنا مثل هذا التصور الا نقصر التعامل مع الحيز على النص السردي وحده (فهذا بطبيعته وماهيته يشتمل أصلا، وضرورة، على حيز، أو على مكان، أو عليهما جميعا في تعاملنا نحن (3)، وانما نمتد به نحو النص الشعري الذي بتحليل عناصر الحيز الكامنة في السمات اللغوية يستحيل النص الى ما يمكن أن نطلق عليه "الملحمة الحيزية ": فيزداد عطاء ويتسع نطاقا، وينضر جمالا، ويخرج من الدائرة اللغوية الضيقة، التي تشبه الإطار المعجمي المحدود الى مجال رحيب.
إن الحيز في النص الشعري لا يقل ارتكازا وحركة، وطفوحا ومثولا في الني السردي.
فالسماء، والحديقة والحقل والغابة والنهر والجدول والطير المفردة والطير حين تحلق في الفضاء والأرض الوعرة والأرض السهلة والصحراء الشاسعة والأدغال الملتفة والصخور الصلدة والأشجار المخضرة والحقول الممتدة والروابي المرتفعة والجبال الشاهقة وحركة الرياح وهي تنسج الرمل وحركة المطر الذي يهتن فينبت الزرع، وحركة المشي وهي تتحرك في كل اتجاه، بل الاضطجاع على السرير بل القيام في مقام، بل الاقتعاد في مقعد.. كلها يندرج ضمن مفهوم الحيز لدينا. ولو أهمله مهمل في قراءته لنص شعري لكان أهمل في رأينا أجمل ما فيه وتغاضي عن أبهي ما تنضح به لغته الشعرية من دلالات وظلال.
المستوي الزمني:
قد يكون الزمن أسبق من الحيز وجودا، بيد أن الزمن، في حقيقته لا يستطيع أن يتخذ كينونته إلا من وجود الحيز نفسه، فالزمن خارج الحيز عدم في العدم.
ولكننا نحن لا نريد أن ننزلق الى زمن الفلاسفة، ولا الى زمن الرياضياتيين ولا الى زمن النفسانيين، ولا الى زمن النحاة أيضا، وانما نريد الى الزمن الأدبي الذي لن يتناوله أحد قبلنا، فيما نعلم وعلى الهيئة التي نقرأ نحن بها الزمن في موالج النص ومخارجه.
وتتوازى فلسفة الزمن، لدينا وفي حقيقتها، مع فلسفة الحيز حيث إنه حين يقول قائل "شجرة " (ونحاول التركيز على الشجرة في الزمن، كما كنا ركزنا عليها في الحيز لتوحيد الإطار وتقريب التصور) فان ذلك يعني اشتمالها على شيء من الزمن حتما. فهو لم يقل فسلا، ولا شجيرة ناشئة وانما قال بملء فيه وبعلء الدلالة: شجرة وواضح أننا نعوم قراءة الشجرة في سياقها النصي، ولا نقطعها عن عالمها الخارجي فندفنها في نفسها، فعل بعض التيارات العابثة، وحين نجيء ذلك غالبا ما نضع أمامنا قرينة تدل على ضخامة هذه الشجرة ويسوقها.
ويرتبط الزمن بالشجرة بفضل السياق الذي يمنحها أبعادا وظلالا دلالية كقوله تعالى: (وهزي اليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا) (4) الذي يمتد الى شبكة عجيبة من الدلالات وارفة الظلال:
فالأولى: أن الزمن هنا إعجازي حيث إن مريم، عليها السلام أوحي اليها لتهز الشجرة (النخلة)، فاللحظة الزمنية التي تمتزج بهذه الحركة الحيزية إعجازية، وزمنها مستمد من المقدس والخارق.
والثانية: ان الزمن هنا ماثل، في الغالب وتحت ضوء النهار حيث إن مألوف العادة يقتضي أن يتم ذلك نهارا لا ليلا وان كان زمن الليل غير مدفوع.
والثالثة: أن الزمن هنا، على ظاهره، فصلي أي أنه كان في فصل جني التمور، لكن بعض المفسرين يؤول هذا الثمر على الوجه الإعجازي فيذكر أنه "كان جذع نخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة ولا خضرة وكان الوقت شتاء" (5) لكن القرآن العظيم، ذكر النخلة بجذاميرها حين قال: ( وهزي اليك بجذع النخلة )، وبربطها الجني، ولم يذكر جذعا يابسا استحال في تلك اللحظة الى نخلة مخضرة مثمرة بل مثقلة بالرطب اللذيذ. فلم يكن على مريم إلا أن تهز جذع النخلة لتساقط منه عليها ما تريد. فالذهاب الى يبس النخلة وشتائية الزمن، على احتمال وروده بحكم أن الله تعالى قادر على كل شيء، إلا أن المقصود هنا من المعجزة ميلاد عيسى من غير أب، ووضع من غير جماع، لا تحويل الجذع اليابس الى نخلة مخضرة مثقلة بالثمار، والآية على ذلك أن الله تعالى أوحى الى مريم أن تهز النخلة لكي يتساقط عليها رطبها، ولم يجعل النخلة تسقطا عليها وحدها، وهو قادر على ذلك للدفع بالناس الى الحركة والعمل، وعدم الاتكال. وليست حياة الأنبياء اليومية كلها معجزات.
وسواء علينا أكان الزمن شتاء أم ربيعا أم خريفا أم صيفا - فالله وحده أعلم بذلك الزمن لمجرد محاولة قراءة لحظة الهز قراءة إعجازية - فإن الذي يعنينا، خارج إطار الزمن الإعجازي، الشجرة في ذاتها، وأن القرآن العظيم يذكر أن المخاض جاء مريم الى جذع النخله، بالتعريف لا بالتفكير (6)، مما ينشا عن هذا التعريف أنها كانت معروفة لدى الناس في تلك الأرض من قبل، فهي إذن تحمل زمنا عاديا بالضرورة، وبالأساس. أما الزمن الإعجازي فهو تأويلي.
والرابعة: أن هناك زمنا خلفيا يكمن في الأزمن التي تعاقبت على غرس هذه النخلة، وسقيها وتعهدها بالرعاية الى أن اغتدت نخلة مثمرة كريمة.
والخامسة: أن هناك زمنا يكمن في السكون (جذع النخلة)، وزمنا آخر يكمن في الحركة (وهزي اليك بجذع النخلة) واذا كانت حركة الهز في حيز نشأت، فإنها لا تستطيع أن تنشأ أيضا خارج الزمن اذ الهز وقع بعيد اللحظة التي تلقت فيها مريم الوحي من اذ تعالى. فهناك إذن زمن رابع.
والحركة الزمنية برمتها: الناشئة عن هز جذع النخلة، وعن وجود النخلة في حد ذاتها، وعن وجود جذعها الذي هو أصلها، وعن تساقط الرطب والتقاطه من على الأرض تجسد ما نطلق عليه في لغتنا: "الأزمنة " (بفتح الميم ) أو Temporisation.
ولو جئنا نقرأ الزمن في "سمرات الحي في شعر امريء القيس لنشأ عن ذلك زمانان: أمامي، وخلفي، وكلاهما غني قابل للعطاء الثر، والسخاء الدثر. إن كثيرا من السمات اللغوية في النص الأدبي تحتمل معاني الزمن تشتمن بها أمثال الأشجار والأنهار، والأراضي والأبحار، والشمس والقمر، والبنايات والقصور.. وكل حركة مادية تحيل على زمن مثل الأحداث المدلهمة كالحروب، والمناسبات السعيدة كالأعياد وأيام الاحتفالات.
إننا لو نتغاضى عن التعرض لمعاني الزمن الموقرة بها مثل هذه السمات اللغوية لكنا قصرنا تقصيرا شنيعا في قراءتنا، ولكانت القراءة من المستوى الحيزي ربما ظلت ناقصة مبتورة. فالزمنية في مقار بتنا هذه تتكامل مع الحيزية، إذ هما كثيرا ما يتعانقان ويتعاشقان حتى ربما عسر الفصل بينهما. ونحن لم نفزع الى الفصل بينهما إلا من باب تيسير الإجراء في القراءة والا فهما متلازمان لا يكادان يتباينان.
ولقد نعلم أن الزمن، هو أيضا إجراء كان خاصا بقراءة الأعمال السر دية وانصرافه فيها الى الاطار الزمني الذي تضطرب فيه الرواية مثلا، وربما توسع ذلك الى لحنية التعامل مع الزمن عبر الماضي والحاضر والمستقبل. وقد كان الإغريق ينادون، في تأسيس مسرحهم بضرورة وجود الوحدات الثلاث وتضافرها وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الفعل.
إن اقتصار النظرة على تبادل الأزمنة داخل العمل السردي لا يشبع التحليل الأدبي ولا يمده بكل الطاقات الضرورية له لكي يرقى الى مستوى الإبداع، أي القراءة، لأنه ينهض على تقييد حرية هذه القراءة التي فتمثلها إبداعا آخر، ويجعلها محدودة الأفق محكومة بقوانين لا تعدوها.
يتبع