"يروى أن يزيد بن المزيد دخل يوما على هارون الرشيد فقال له : يا يزيد من الذي يقول فيك
|
لا يعبق الطيب خديه ومفرقــه |
ولا يمسِّح عينيه من الكحـــــــــل |
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه |
مسالك الموت في الأبدان والقلل |
|
|
فيقول يزيد : لا أعرف يا أمير المؤمنين , فيقول الرشيد : أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله ؟
فخرج يزيد خجلا من عند الخليفة فلما صار إلى منزله دعا حجابه وسأله : من بالباب من الشعراء ؟ قال : مسلم بن الوليد , قال : وكيف حجبته عني فلم تعلمني بمكانه , قال أخبرته أنك مضيق وأنه ليس في يديك شيء تعطيه إياه وسألته الانتظار حتى الميسرة . ولكن يزيد ينكر ذلك من حاجبه ويأمر بإدخال مسلم عليه , فيدخل الشاعر فينشده لاميته هذه الغراء , فيأمر له يزيد بخمسن ألف درهم جائزة , ولما لم يكن يحملها آنذاك فقد أمر حاجبه أن يرهن ضيعة من ضياعة على مائة ألف , أعطى منها مسلما خمسين ألفا واستبقى خمسين ألفا لنفقته . فلما علم الرشيد بذلك أمر ليزيد بمائتي ألف درهم قائلا : اقض الخمسين ألف درهم التي أخذها الشاعر وزده بمثلها وخذ مائة ألف لنفقتك ".......
وهذه القصيدة لا تكاد أن تستهلها حتى تشعر بجو ملحمي وجلالة ملوكية يصوغها الشاعر بديباجة فخمة ومعان مبتكرة . ولا تكاد أن تترك البيت بعد البيت حتى تشعر بفحولة طاغية في ألفاظها إلى جانب تلك الروعة المدهشة في وقعها وإيقاعها ....
وهذه اللامية المشهورة لمسلم يستفتحها بقوله ....
|
أجررت حبل خليع في الصبا غزل |
وشمرت همم العذال في العذل |
|
|
ثم يتبعها بالغزل وصد المحب ومطله معاقرا للخمر واصفا لها حتى ينتهي إلى مدح يزيد
فيقول وقد تمكنت ألفاظه من غير إخلال بالمعنى :
|
سد الثغور يزيدا بعدما انفرجت |
بقائم السيف لا بالختل والحيل |
كم قد أذاق حمام الموت من بطل |
حامي الحقيقة لا يؤتى من الوهل |
أغر أبيض يغشى البيض أبيض لا |
يرضى لمولاه يوم الروع بالفشل |
|
|
ثم يلحقها ببيتين .....
|
يغشى الوغى وشهاب الموت في يده |
يرمي الفوارس يوم الروع بالفشل |
يفتر عند افترار الحرب مبتسما |
إذا تعير وجه الفارس البطل |
|
|
وهذا يذكرنا بقول المتنبي في مدح سيف الدولة
|
وقفت وما في الموت شك لواقف |
كأنك في جفن الردى وهو نائم |
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة |
ووجهك وضاح وثغرك باسم |
|
|
وإن كنا نسلم بشمولية بيت المتنبي و جماله لكنه لا يضارع تلك الفحولة الطاغية في ألفاظ مسلم .....
ويسترسل الشاعر في مدحه وقد وشى قصيدته بصروف البديع تارة وبالمعاني المبتكرة تارة أخرى ...
|
موفٍ على مهج في يوم ذي رهجٍ |
كأنه أجل يسعى إلى أمل |
ينال بالرفق ما يعيا الرجال به |
كالموت مستعجلا يأتي على مهل |
لا يلقح الحرب إلا حيث ينتجها |
من هالك وأسير غير مختتل |
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته |
كالبيت يضحي إليه ملتقى السبل |
يقري المنية أرواح الكماة كما |
يقري الضيوف شحوم الكوم والبزل |
يكسو السيوف دماء الناكثين به |
ويجعل الهام تيجان القنا الذبل |
يغدو فتغدو المنايا في أسنته |
شوارعا تتحدى الناس بالأجل |
قد عود الطير عادت وثقن بها |
فهن يتبعنه في كل مرتحل |
|
|
فتأملوا سموا الخيال وروعة الاستعارة في قوله (( يقري المنية )) , وتأملوا كيف عود الطير بأكل جثث أعدائه وكيف قرن إقدامه بالأناة والحكمة .
وقد أخذ المتنبي معنى مسلم في قوله
|
قد عود الطير عادت وثقن بها |
فهن يتبعنه في كل مرتحل |
|
|
فقال
|
يطمع الطير فيهم طول أكلهم |
حتى تكاد على أحيائهم تقع |
|
|
وشتان بين البيتين
ثم يختم هذه القصيدة بهذه الأبيات الرائعة ....
|
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه |
ولا يمسِّح عينيه من الكحل |
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه |
مسالك الموت في الأبدان والقلل |
وإن خلت بحديث النفس فكرته |
حيى رجاء ومات الخوف من وجل |
|
|
وفي قوله
|
لا يعبق الطيب خديه ومفرقه |
ولا يمسِّح عينيه من الكحل |
|
|
وذلك كنايةً عن تركه للدعه والراحة وانشغاله بالغزو والجهاد
نتذكر بيت ابن هانئ الأندلسي الشهير
|
في فتية صدأ الدروع عبيرهم |
وخلوقهم علق النجيع الأحمر |
|
|
وفي قوله
|
إذا انتضى سيفه كانت مسالكه |
مسالك الموت في الأبدان والقلل |
|
|
نتذكر مطلع قصيدة ابن سهل الأندلسي
|
فوق سهامك إن الله يهديها |
واسلل سيوفك فالأقدار تمضيها |
ثمار نجح سحاب الرأي يمطرها |
وأنت تغرسه والدين يجنيها |
|
|
هذا وإلى لقاء آخر
تنويه :
هذه القراءة الانطباعية لا تصل إلا مرحلة النقد و الدراسة
فإن وجدتني أحاكم في بيت
أو أفضل بيت شاعر على آخر
فلا تعزو ذلك إلا لرأي عامي متطفل على موائد الأدب أحب أن يبدي شعوره اتجاه ما يقرأ