رمضان كريم وكل عام و أنتم بخير بعد المشاركات الثلاثة التي هي:-البحث عن الظل ,- على خاطر ربي ،- التينة.. ها أنا ذا أبعث بين أيديكم بمحاولة أخرى تتناول موضوع التعليم في بلادنا الذي حاولت جهدي أن يكون في قالب قصصي .
الاختبـــــار
قبيل انتهاء الفصل الأول, شرع المعلم يوزع كراريس الاختبار على التلاميذ مبتدئا كما جرت العادة بصاحب المرتبة الأولى الذي أخذ كراسه فرحا مزهوا بنتيجته, ثم الثاني, فالثالث, و هكذا حتى حان دور تلميذ رتبته كان رقمها يساوي عدد تلاميذ القسم... جاء متثاقلا متباطئا, مادا ذراعا كادت تشل من فرط الخوف نحو المعلم الذي بعد أن تأمل وجهه تبين له أن الولد في غاية الارتباك و شدة الخوف..
وجد المعلم نفسه أمام موقف ذكره بمأساة حدثت له منذ ثلاثين سنة خلت, لما كان في سنه في الصف الرابع من المرحلة الابتدائية, يوم وزع معلمهم آنذاك عليهم كراريس الاختبار التي كان المعلمون وقتئذ يحرصون على إلباسها اللون الأسود ليأخذها التلاميذ إلى أوليائهم و يعيدوها في اليوم التالي عليها توقيع الآباء.
رتبته يومئذ كانت جد مخجلة, لم تكن هذه هي المشكلة, بل مشكلته كانت تكمن في كيفية إيصال الكراسة إلى أبيه الذي لم يكن يعرف قلبه الشفقة فيما يتعلق بالمدرسة, هل يعطيها لأخته لتسلمها له؟...أم أمه التي لم يكن يخافها كخوفه من أبيه, استغرق لحظات طويلة و هو في مقعده الأخير قرب خزانة القسم يبحث عن طريقة تنجيه من العقاب المحتوم: هل يعيدها للمعلم دون إمضاء؟.. تلك مصيبة أخرى, بل ستتضاعف: إذ بعد أن يضربه المعلم الضرب المبرح سيستدعي والده إلى المدرسة و يخبره بالأمر.
-... أخيرا اهتدى إلى حيلة فقرر حين وصوله إلى البيت و أثناء غياب أبيه, يضع الكراس مفتوحا عند صفحة جدول الاختبار على طاولة المرآة بجانب المشط, و حين يأخذ أبوه في التأهب للعودة إلى عمله أمام المرآة ستقع عيناه على الكراس بدون شك, سيمضيها غاضبا حانقا, ساعتها يكون هو بعيدا عنه في المدرسة. و قبل عودة الأب من العمل متعبا يكون الطفل قد استرجع كراسه موقعا بسلام. الأب سينسى الكراس و أمره, لأنه بمجرد تخطيه عتبة الباب تتلقاه أمه بطلباتها التي لا تكاد تنتهي فيدخل معها في معركة كلامية أحيانا تصل إلى الضرب, إذ يلومها هو بالتبذير و اللامبالاة رغم الغلاء, و تلومه هي بالتفريط و التقصير فيما تحتاجه العائلة من أسباب العيش...
لكن هناك أمر قد يكون سببا في لفت انتباه الأب إليه : أخته ستأتي بكراسها هي الأخرى هذا المساء أو غدا .. هي دائما متفوقة, و كأن تفوقها لم يكن إلا ليجر عليه الوبال, فقدت بصرها و عمرها أربع سنوات, تتردد على مدرسة خاصة, و هو ببصره لم يكن يحلم حتى بنتائج متوسطة. كم كان يتضايق لدرجة الاختناق حين تجتمع الأسرة ليلا أو نهارا و يأخذ الوالد في المقارنة بينه و بين أخته الكفيفة لما كانت أمه تشعر بضيقه تحاول تلطيف الجو فتبتسم له و تؤنبه تأنيبا فيه إشفاق, لكنها سرعان ما تسقط هي الأخرى في مصيبة المقارنة فتزيد الجو توترا: "يا بني الله أنعم عليك بنعمة البصر...لكن بدون
فائدة و أختك الضريرة كل الناس يتكلمون عن اجتهادها و ذكائها ...و..." يقاطعها أبوه بجفوته المعتادة و دخان سيجارته يملأ فضاء الغرفة الضيقة :"يا امرأة , الأعمى أعمى من قلبه و ليس من عينيه...ابنك هذا أعميتيه أنت بتدليله...ليته يفتح كتابه مرة واحدة...لا يدخل البيت إلا وقت النوم أو الأكل..."
فعلا كان الولد يقضي بياض نهاره في الشارع مع أبناء الجيران يلعبون بأي شيء و يقولون أي كلام, المهم عنده أن يبقى خارج البيت, حتى عندما لا يجد أحدا يلعب معه, يجلس في مكان ما..إلا البيت..و يتعاظم قرفه أيام العطل رغم انتظاره لها بشغف, إذ في الوقت الذي يعد فيه العدة للخروج, تضع أخته الشقية كتبها على الطاولة و تشرع في تمرير إصبعها على الصفحات للقراءة, و كأن لا شيء يشغلها سوى القراءة, فتشد بذلك انتباه الوالدين الذين يحرمانه من مغادرة البيت ويعود مسلسل المقارنات من جديد محملة بعبارات السخط:"إلى أين..؟ لماذا لا تراجع دروسك مثل أختك..؟ الشارع..الشارع؟ أخرج كتابك واقرأ..
ليس له من حيلة سوى الجلوس مكرها, فيخرج كتابه كما أمر و يفتحه في أي صفحة ليرى سطورا تتراقص غير آبه بالحروف أو الكلمات, اللهم إلا ذلك الرسم الذي يزين الصفحة. فيتظاهر بالقراءة بينما ترتسم في مخيلته صور أصدقائه و هم يلعبون الغميضى أو يتسابقون أو يتقاذفون بكرة عبد المجيد, لحظتها يتساءل: لماذا لا يشتري لي أبي كرة كتلك التي عند عبد المجيد؟ لكنه سرعان ما يتذكر أبوه و هو يقول له بغلظة:"اللعب يشغل عن الدروس!" فيجيبه صامتا متحديا"ولماذا ابن جارنا بكرته و بلعبه و يحصل على نتائج ترضي أباه و معلمه؟"... توقف شريط ذكرياته حين فوجئ بوقوف التلاميذ مستقبلين مدير المدرسة الذي جاء يهنئ التلاميذ الأوائل و يوبخ الأواخر تارة بالضرب و تارة بعقوبات مخجلة للغاية, لحظتها وقف مثلهم لكن متأخرا الأمر الذي أثار ضحك زملائه و تأنيب المعلم له, بعد أن غادر المدير القسم عاد التلاميذ إلى القراءة الفردية و عاد صاحبنا إلى مشكلته العويصة يفكر في حلها
أخيرا و بعد أن يئس من الاهتداء إلى الحل قرر أنه لا بد من تقديمها لأبيه يمضيها و قبل أن يغضب يعاهده أن تكون هذه هي المرة الأخيرة مع الكسل و مع المراتب الأخيرة و أنه سيجتهد و يجتهد...و بينما هو سارح إذا بضربة كالصاعقة تقع على رأسه بالعصا الغليظة و صوت المعلم يخترق أذنيه بعنف: يا حمار...اقرأ, جاء دورك! حاول أن يقرأ و لكنه لم يهتد إلى السطر الذي توقف عنده زميله...فطلب منه المعلم القيام وبدأت الضربات تلو الضربات تنهال على يديه الصغيرتين و مع كل ضربة يسمع :يا حمار..يا غبي..أتسخر مني؟ و وجهه العبوس بعينين تقدحان شررا , يرفع العصا إلى الأعلى حتى تكاد تختفي في الفضاء ثم ينزلها بكل قوته تارة على اليد اليمنى و تارة أخرى
على اليد اليسرى, حين ترى المعلم و هو ينزل العصا بكل ثقل ذراعه العريضة الغزيرة الشعر تتوقع أن أصابعه الصغيرة ستتشتت على الأرض و
كلمة " يا حمار" يقولها ضاغطا على كل حرف من حروفها و كأنه يريد تسميعها لكل المدرسة – وكأن صراخ الطفل لم يكن إلا ليزيد ه إصرارا على مواصلة التعذيب. و أنت تتابع المشهد يبدو لك أن الضرب المبرح و الكلمات الجارحة لم تشف غليله - لما يتعب المدرس يعود إلى مكتبه قائلا:" أجلس يا حمار". فيجلس الولد يكمد يديه و كأن الجمر قد وضع على راحتيهما متتبعا حركات المعلم و هو يضع العصا على المكتب و يمسح العرق الغزير. عندها يقول بينه بين نفسه: ليتك يا أبي ترى و تحس بعذابي, لقد عوقبت بما فيه الكفاية...فلماذا تنتظرني أنت الآخر بسوطك...؟ .