همسات:
شاعر كبير ، وقصيدة شاهدة على العصر.
قراءة : مصطفى عراقي *
هذه القصيدة لشاعرٍ جليل هو الشاعر : علي السبتي ، من رواد الشعر الحديث في الكويت والوطن العربي ،
وهي تأتي في وقتها شهادة جديدة على عصرنا.
وهي شهادة نافذة كاشفة ؛ لأنها تصدر عن نفس حرة أبية، وقلب شاعر حساس.
ومما يؤكد قيمة هذه الشهادة التي تجسدت في قصيدة فنية سامقة أنها من شاهد خبير بصير بالزمنين، زمن ماضٍ ، وزمنٍ حاضر.
***
وإني قد رأيتُ وما رأيتمْ زمانا يزدهي فيه النجومُ***
تصدر هذه القصيدة عن نفس أبية من ذوات الهمم العلية،
فهي نفس تحب معالي الأمور وتكره سفاسفها،
نفس تحب المثل الأعلى ولا ترضى بالذي هو أدنى.
إنها نفس الحر:
"ونفس الحر إن وجدت هواها بغير وعائها لا تستقيمُ"ولنسمع لهذه النفس الكبيرة حين تهمس.
إن همسها ليس كسائر الهمس بل هو همس الواثق الشريف لا همس الخائف الضعيف.
ولكن هذا الهمس الواثق الناطق بالحكمة ، لم يعرض عرضا مباشرا بل جاء في قالب فني متميز بما وفره له الشاعر من أدوات أحسن استخدامها بتمكن ، وطاقات فجرها باقتدار.
وقد جاءت القصيدة في ترابطها وتماسكها كالجسد الواحد:
فأنت تلمس التآخي بين أبيات القصيدة كأحسن ما يكون التآخي، فكل بيت يسلم إلى أخيه بسلاسة ، وتناغم، وانسجام. في بنية ممتدة
ويبدو هذا الامتداد منذ العنوان: "همسات" دلاليا، وصوتيا.
فهي همسات عديدة ممتدة لا همسة واحدة، وقد جاء المد الصوتي فيها مصورا لهذا التعدد. والامتداد
ثم تبدأ القصيدة:
ثم تبدأ القصيدة بداية فنية موحية ، بلغة سينمائية مصور ، وكأننا أمام سيناريو ، يلقي لنا الشاعر بخيوط تبدو متناثرة
فراشٌ باردٌ وهوًى قديمُ وأطيافٌ تُطلُّ ولا تقيمُ"
وهي وسيلة من وسال تشكيل الصورة الشعرية وبنائها عن طريق تجميع مجموعة من العناصر المتناثرة التي قد لا يكون لأي منها منفردة دلالة واضحة ولكن تجميعها في صورة شعرية واحدة يجعلها قادرة على إحداث التأثير النفسي الذي ينشده الشاعر بتآزرها معا.
فهي تتابع لتؤلف فيما بينها المشهد الشعري، مستخدمة وسيلة نحوية بارعة هي الحذف.
فكأنه قال: هذا فراش بارد ، وهذا هوى قديم، وتلك أطياف .
يقول العلامة أبو السعود في تفسيره القيم مبينا القيمة البلاغية لمثل هذا الحذف، وتقدير الإشارة:"وإنَّما أُشير إليها مع عدمِ سبقِ ذكرِها لأنَّها باعتبار كونِها في شرف الذِّكرِ في حُكم الحاضرِ المُشاهَدِ"(1)
وحذف المبتدأ هنا حتى يكون التركيز على هذه العناصر التي هي في حكم الحاضر المشاهد لترسم المسرح الذي ستدور فيه الأحداث ، وتتجلى فيه المشاعر.
" يلجأ الشاعر المعاصر إلى أسلوب السيناريو السينمائي في قصيدته الشعرية، حيث يحولها إلى مجموعة من المشاهد واللقطات واللوحات بحيث يمكن تحويلها إلى سيناريو سينمائي"(2)
وما زال الشاعر يرسم المشهد بما ذكر وبما لم يذكر :
ومما زاد في الهمِّ اتساعا أكاذيبٌ يروجها أثيمُ
فثمة أشياء كثيرة يحيلنا إليها الشاعر لرسم مشهد ممتد ، ومن هذه الأشياء يلقي الضوء على إحدى لأهميتها وخطورتها : أكاذيبٌ يروجها أثيم.
وهي أكاذيب كثيرة متعددة رغم أنها مسندة إلى أثيم واحد.
ويمتد المشهد إلى البيت التالي حيث يصف هذا الأثيم:
يراني في توهمه مسيئا وما من شيمتي : الفعل الذميمُ
وأنت تلاحظ هنا توازن البناء حيث يأتي الشطر الأول للتعبير عن الأثيم والثاني للحييث عن الذات، بيد أن شاعرنا ينسى هذا الأثيم أو يتناساه، ويمتد الحديث عن النفس
وما من شيمتي إتيان أمرٍ يلذ بأمره العقلُ السقيمُ
ويكرر الشاعر عبارة: وما من شيمتي ، وهي تحقق لنا فائدتين:
الأولى: الربط بين البيتين ، وكأنهما مشدودان معا بهذه العبارة المفتاحية.
الثانية: تأكيد براءته من العيوب التي تأباها النفس الحرة الشريفة . والعقل السليم. وهاهو يخلص الحديث لهذه النفس مبينا شمائلها الزكية:
وقد عودتُ نفسي أن أراها كما أهوى ودربي مستقيمُ
وما لي من أنيسٍ حين أخلو إليها غيرُها فهي النعيمُ
ما أقرب هذا المعنى من معنى قول ابن تيمية رحمه الله: "إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة وقال لي مرة : ما يصنع أعدائي بي ؟ أنا جنتي وبستاني في صدري إن رحت فهي معي لا تفارقني"(3)
وفي هذا دليل على أن نفوس الأنقياء تلتقي في هذه المعاني السامية.
وأنت تلاحظ المبالغة في نفي الأنيس هنا باستخدام حرف الجر الزائد
وما لي من أنيس
ثم يأخذنا الشاعر مع نفسه الزكية في رحلة قدسية رحلة معراج رمزية، فهاهو يحدثنا عن نفسه العلية وهي :
تعرج بي لأخرى تزدهي بي بها يتكون المجد الرحيمُوقد عرفت أن السمة الغالبة في تأليف هذه القصيدة المتفردة سمة الامتداد.
فما تزال نفس الحر تعرج بصاحبها من منزلة سامية إلى أخرى ، حتى تبلغ ذروة شاهقة سامقة هي ذروة المجد الرحيم.
وقد وفق الشاعر في تصوير الدرجة الرفيعة والمجد الذي يتكون فيها بصفتين
فالدرجة الرفيعة تزدهي به حين يصل إليها وكأنها كانت في شوق إليه وارتقاب.
والمجد رحيم.
وهي صفة جديدة للمجد من مبتكرات شاعرنا .
لقد حدثنا الشعراء عن المجد القديم والمجد الأثيل والمجد الصميم والمجد الرفيع والمجد البعيد.و..و...
أما المجد الرحيم فقد استأثر به - فيما أعلم - شاعرنا المبدع.
وقد استخدم الشاعر هنا الحذف ببراعة ، إن المعنى الأصلي، تعرج بي من درجة رفيعة إلى أخرى أرفع منها حتى يلتقي بهذا المجد الإنساني ذي القلب الذي يفيض رحمةً، وإنسانية
وهي صفة تصور لنا المجد في صورة محببة قريبة من القلب. غير تلك الصورة النمطية للمجد .
ثم بعد أن عرج بنا الشاعر مع نفسه الكريمة في تلك الرحلة العلوية ، ينظر الآن من عليائه إلى عدوه الأثيم تعريضا ، ولكنه لم يعد وحده هذه المرة بل صار جماعة :
ولو نفسي كأنفس من أشاعوا لظلت في قطيعهمو تسيمُ
ثم يحين الآن دور الحكمة الذي يتميز به شاعرنا "أما المعاني الحكيمة الصادرة عن دقة نظر ، فإنها ماثلة في مواقع وسياقات متعددة."
ونفس الحر إن وجدت هواها بغير وعائها لا تستقيمُ
وليس من شك أن الحكمة هنا جاءت نابعة من المقدمات التي ساقها الشاعر
ثم يلتفت شاعرنا إلى المتلقي ليشاركه معه في قضيته مع هؤلاء
فقل للضاربين بكل * وادٍ لكلٍّ دربه وهو العليمُ
وهو يصورهم لنا بهذه الصورة وكأننا نراقبهم معه لكي نصدمهم بهاتين الجملتين القصيرتين، لأن الأمر واضح جلي لا يستدعي الإطالة:
لكل وجهه.
فليختر ما يشاء،
لكنه اختيار مغلف بتهديد ، فهو يذكرهم بأن لكل اختيار عاقبة كما نلمح في التحذير المضمن في الجملة التالية:
"وهو العليم: سبحانه وتعالى
ثم يلجأ الشاعر إلى التعبير عن تبرئه منهم بهدوء :
ودربي غير دربكم فسيروا بغير هدًى وإن شئتم أقيموا
يبدأ بدربه الذي اختاره اعتزازا به وعناية بشأنه.
ولا يقنع الشاعر بالإشارة إلى الاختلاف بين دربه القويم ودربهم بل يصور لنا مدى البعد بين الدربين بسمو واقتدار قائلا:
فبينكمو وبيني شاسعاتٌ * من الطرقاتِ آخرها سديمُ
وهذا البيت آية في التعبير عن مدى بعد ما بين الشاعر ذي النفس الحرة والهمة العليةفي جهة ، وهؤلاء في الجهة المقابلة
وقد تحقق ذلك عبر ما يلي:
1. تقديم الظرف الدال على التباين والاختلاف، وهو يبدأ بهم هذه المرة مبالغة في إرداة إبعادهم .والرغبة في إقصائهم.
2 . حذف الموصوف وإبقاء الصفة(شاسعات) دلالةً على علوه عليهم بكل المقاييس التي يتخيلها القارئ:
فالمسافات الفارقة شاسعات
والمساحات الفاصلة شاسعات
والطرقات المبعدة شاسعات.
3. كما جاء جمع كلمة شاسعات ، موحيا بهذا التعدد في الفوارق بينه وبينهم ، مع ما تتميز به الكلمة على المستوى الصوتي من مد يصور امتدادها.
وها نحن أولاء مع الشاعر في هذه الرحلة المصورة لامتداد المسافة بينه وبينهم ، حتى إذا ظننا أننا وصلنا معه إلى نهايتها وجدنا أن(آخرها سديم)
يا لله: سديم؟!
"والسديم: بقع سحابية متوهجة أو مغيمة في الفضاء ناشئة عن تكاثف أو تصادم عدد لا يحصى من الأجرام السماوية ".(5)
فانظر كيف جاءت كلمة السديم في القافية لتوحي بكل هذا الامتداد على المستوى العلمي ، أما على المستوى اللغوي، فيقول ابن فارس: "السين والدال والميم أصلٌ في شيءٍ لا يُهتدَى لوجهه.(6) وفي اللسان:" والسَّديمُ الضَّبابُ الرقيق"(7)
وهو على هذا المعنى أيضا يفيد الضبابية وعدم الاهتداء دلالة على طول الشقة. بما يدل على ثراء الكلمة وتعدد مستوياتها.
ثم يبين لنا الشاعر كفاءته في الإدلاء بشهادته على العصر بهمساته الغاضبة الرافضة، قائلا:
وإني قد رأيتُ وما رأيتمْ *زمانا يزدهي فيه النــجومُيشير إلى زمان مضى ،
يعيشُ العارفون به سُراةً *ويبقى الأرذلون كما أسيمُ
لكنه لا يستسلم لرحيله بل تراه يحاول استحضاره وكأنه يتشبث به حتى لا يتسرب، وذلك من خلال وصفه بجمل فعلية فعلها مضارع.
كأن الشاعر يحتال باللغة على الزمن ليقنعه بالبقاء.
* "يزدهي فيه النجومُ"
* "يعيشُ العارفون به سُراةً "
* "يبقى الأرذلون كما أسيمُ
والشاعر هنا يوظف اللغة باقتدار من خلال استعمال الفعل لازما مرةً ومتعديا أخرى.
وهو يُحيلنا هنا إلى صورتهم التي صورها لهم وفي قطيعهم يَسيمون. لكنه في هذه المرة هو الذي يُسيمهم كما تُسام الماشية.
ويتركنا الشاعر مع ختام القصيدة لنبقى نحن في حالة تأمل ممتدة ، ونحن نتابعه في انتصاره على الأرذلين.
يُتبع