منهج النبي (صلى الله تعالى عليه وسلم) في إقامة الدولة
قراءة أخرى في معطيات السيرة النبوية
د.موفق سالم نوري.
بعض المسلمات:
مما هو مسلم به أن الإسلام دين شمولي، لم يدع زاوية من زوايا الحياة الإنسانية إلا وعمل على تنظيمها على وفق المنهج الذي أراده الله تعالى، وقد اشتمل الإسلام على الأحكام والقواعد والآليات والمنهج الذي جعله قادراً على حلِّ مشكلات الحياة الإنسانية كافة في كل زمان ومكان.
فللإسلام محاور تعبدية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وما إلى ذلك من نواحي الحياة الأخرى، وبذلك فإن الإسلام يمثل التصور الأخير للحياة، كما أراده الله تعالى للبشر حتى قيام الساعة.
والإسلام بهذه الأبعاد والمحاور ليس ديناً للأفراد وحسب، بل هو دين للجماعة أيضاً، فشريعة الإسلام لم تختص بمسائل العبادة والآخرة، بل امتدت إلى شؤون الجماعة بكل معطياتها الدنيوية، بل إن العبادات في الإسلام لا تقوم على الهيئة الفردية أو الشكل الفردي لها، بل إن ذلك جاء متداخلاً بشكل عميق مع الشكل الجماعي للعبادات، فالصلاة تمثل صلة عميقة (للفرد) مع خالقه، غير أن هذه الصلاة تكون أعظم شاناً إذا تمت في إطار الجماعة، بل إن بعض فروضها وسننها لا تصح إلا في إطار الجماعة، كما في صلاة الجمعة والعيدين، وكما أن الحج تطهير (للفرد)من ذنوبه وآثامه الماضية، إلا أن هذه الفريضة لا تصح ولا تكون إلا باجتماع المسلمين لأدائها في مؤتمر عام يضم ملايين المسلمين في زمان ومكان محددين، ومع أن الصوم جهد الفرد في مكابدته للجوع والعطش إلا أن بعض الحكمة من الصوم يتمثل بترسيخ الإحساس بالجماعة وهذا ما يمكن قوله أيضاً بشأن الزكاة والصدقة.
فإذا ما أضفنا إلى هذا البعد (الجماعي) للعبادات جوانب أخرى توازيها في الأهمية مثل إقامة النظام الاقتصادي الإسلامي، ومثله النظام الاجتماعي، يتبين لنا أن إقامة الإسلام ليس جهداً فردياً، ولا عملاً شخصياً، يقيمه الأفراد في حياتهم الخاصة، بل إن الأمر يحتاج إلى جهد (الجماعة) لإقامته.
وحتى يكون جهد الجماعة أو المجتمع منظماً سائراً في اتجاهاته الصحيحة، فإن هذه المهمة تتولاها (الدولة) بالنيابة عن المجتمع، فالدولة كيان منظم، يمتلك المقومات اللازمة لإقامة (دولة) الإسلام بكل نظمه ومعطياته.
ومشروعية الدولة في الإسلام أظهر من أن تحتاج إلى حجة شرعية، فالمرحلة الحاسمة في عمل النبي () تمثلت بإقامته (دولة) المدينة التي قامت بعد الهجرة إلى يثرب.
ثم أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على ضرورة قيام (الدولة) وذلك بإجماعهم على مبايعة الخلفاء الراشدين الأربع، وكانت لهذه البيعة دلالة سياسية واحدة هي إقرارهم قيام دولة
تتولى مهمة إقامة الإسلام في حياة المسلمين أفراداً وجماعات، حتى قال الإمام علي ـ كرم الله وجهه ـ: "لا بد من إمارة برة أو فاجرة"، فالإمارة في كلا الحالتين تتولى مهمة تطبيق نظام الإسلام بكل محاوره في حياة الناس.
إن الدولة في الإسلام دولة عَقَدية، ولها مهام عَقَدية دعوية، فهي تقوم بمهمة حفظ الدين وحمايته ونشره، فضلاً عن تطبيقه في جوانب الحياة كافة؛ لهذا أجمع الفقهاء والمتكلمون بكل فرقهم واتجاهاتهم على أن (الإمامة = الدولة) ضرورة لازمة في حياة الأمة الإسلامية؛ حتى إنه ليمكن القول إن الدولة والإسلام وجهان متلازمان لا يمكن الفصل بينهما؛ فإذا وقع هذا الفعل فسدت الدولة ووقع التقصير في إقامة الإسلام، فإذا وقع هذا التقصير (تعين) على كل مسلم أن ينهض بدوره وجهده لتلافي ذلك.
لماذا (يتعين) على كل مسلم أن يسهم في النهوض بهذه المهمة؟
لقد قرر العلماء أن الجهاد يصبح (فرض عين) إذا تعرضت دولة المسلمين أو بلادهم لخطر العدو الكافر، هذا التحول من فرض كفائي إلى فرض عيني تجاه (الجزء) من بلاد المسلمين أو حياتهم أو دولتهم، فكيف إذا كان الأمر تجاه (الكل)، أي: فقدان الدولة وغياب نسبة كبيرة من الأحكام الشرعية عن التطبيق في مفاصل حياة الأمة، هنا تكون فرضية العين أولى وأوجب فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فواجب إقامة الإسلام لا يتم إلا بإقامة الدولة وواجب إقامة دولة الإسلام لا يتم إلا بالعمل الجماعي الجاد من أجل هذا الهدف.
وإقامة دولة الإسلام ليس عملاً عشوائياً أو ارتجالياً، أو يتحقق اتفاقاً، بل لابد من منهج للوصول إلى هذه الغاية، ولما كانت المناهج الوضعية تحتمل الخطأ والصواب، وإقامة دولة الإسلام لا تحتمل انتهاج الخطأ والصواب، لما يترتب على ذلك من نتائج خطيرة قد تطيح بكل شيء، لذا لابد من منهج لا يحتمل إلا الصواب، ولا يمكن لمثل هذا المنهج أن يكون بشرياً بل لابد من أن يكون وحياً، ومثل هذا الأمر لا يحققه سوى اتباع منهج النبوة في إقامة دولة الإسلام.
منهج النبوة في إقامة دولة الإسلام:
قامت برامج الحركات الإسلامية المعاصرة في منهاجها على أساس قراءة السيرة النبوية قراءة تقودها إلى تبيين ملامح منهج النبوة في إقامة الدولة. لقد مضى قرابة الثمانين سنة على سقوط دولة الخلافة الإسلامية، حيث أعقب ذلك قيام العديد من الحركات الإسلامية، كلٌ يسعى بجد وإخلاص نحو إعادة مجد المسلمين في دولة جديدة للخلافة، متوسمين في ذلك البشارات التي جاءت بها الأحاديث النبوية الصحيحة التي بشرت بعودة الخلافة على منهاج النبوة، غير أن الجهود التي بذلت وما زالت تبذل لا تؤشر قرب الوصول إلى هذه الغاية، وربما كانت المشكلة الحقيقية كامنة في المنهج الذي تعتمده هذه الحركات وهي على اختلافها ـ أي: الحركات ـ تكاد تجمع على منهج واحد في خطوطه العامة/ ويتمثل بضرورة العمل على (تثقيف الأمة) ثقافة إسلامية صحيحة، أو إعادة (تبليغ) الأمة بدينها من جديد، أو العمل على نشر (العلوم الشرعية) وتحقيق نهضة علمية شرعية شاملة.
كل ذلك سوف يقود بصورة تلقائية إلى إقامة دولة الخلافة!! وقد بني هذا التصور على (قراءة) قد تكون غير دقيقة للسيرة النبوية، وعلى النحو الآتي:
إن النبي () مكث يدعو قومه في مكة زهاء ثلاثة عشر عاماً، ينظر إليها غالب المعنيين على أنها مرحلة الدعوة والتثقيف والإعداد، وبعد بيعة العقبة الأولى أرسل مصعب بن عمير () إلى يثرب (يعلم) أهلها الإسلام ويدعوهم إليه وبعد عام واحد من هذا الجهد تمت بيعة العقبة الثانية التي هاجر النبي () بعدها إلى يثرب ليقيم فيها دولة الإسلام، بعدما أصبحت الأمور جاهزة بفضل الدعوة والتثقيف الذي تم فيها.
إن قراءة فاحصة متأنية تبين لنا أن التحولات لم تجر بهذه الصورة المبسطة، فإن مرحلة الدعوة والتثقيف التي شهدتها المرحلة المكية لم يكن لها سبب حقيقي في (إقامة) دولة الإسلام في المدينة، فلو كان لها صلة ما بهذا التحول الخطير لتوجب الأمر أن تقام هذه الدولة في مكة وليس في المدينة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن جهود النبي () وصحبه الكرام (رضوان الله عليهم) لم تنجح في تحويل مجتمع مكة إلى الإسلام، بل إن هذه الجهود أخفقت حقيقياً في هذه الناحية، وإن نصرة النبي () الحقيقية جاءت من يثرب وليس من مكة.
فجهود ثلاثة عشر عاماً من الدعوة وهي ليست بالزمن القصير لم تسفر إلا عن عدد قليل ممن اعتنقوا الإسلام، لم يتجاوز عددهم المائة إلا بقليل، وما تم ذلك إلا لحكمة أرادها الله تعالى هي أن لا يظهر انتصار النبي بداعي العصبية القبلية، بل إن انتصار الدعوة تم بداعي فضل الله تعالى أولاً ثم عزيمة النبي () وإصراره وصبره وتحمله مع أصحابه الكرام كل متطلبات الثبات على المنهج حتى يتحقق النصر النهائي بإشادة الدولة الإسلامية.
إذن ما هو السبيل الذي نهجه النبي ()من أجل إقامة هذه الدولة؟.
للإجابة على هذا السؤال لابد من إقرار بعض من الحيثيات المهمة التي تسهم في قراءة هذا المنهج قراءة صادقة، من ذلك أن إقامة دولة الإسلام في المدينة لم يكن ثمرة لمتغيرات تاريخية (عفوية أو تلقائية) تمت بصورة طبيعية من خلال تفاعل الناس أصحاب العلاقة مع بعضهم ومع محيطهم بما قاد إلى هذا التحقق للدولة، بل إن ذلك تم بشكل رئيس على أساس الرعاية الإلهية والعناية الربانية التي كانت (تريد) قيام مثل هذه الدولة حتى تأخذ رسالة الإسلام أبعادها الحقيقية كما أرادها الله تعالى لتكون رحمة للعالمين، ولتكون الصورة والأنموذج الذي يتطلع إليه المسلمون كلما نأى بهم حالهم عن المنهج الصحيح، وهذا يعني أن هذه الرعاية وهذه العناية أسفرت عن منهج لإقامة الدولة لتمثل شكلاً من أشكال الوحي إلى النبي ().
ولابد أن نقر أيضاً أن النبي () سعى منذ بدء دعوته إلى إقامة دولة الإسلام, ورب قائل يقول: إن مفهوم الدولة وشكلها لم يكن من الأمور المألوفة والمعروفة في مجتمع مثل الحجاز، بحيث إن مدنه الرئيسة مكة والمدينة والطائف لم تشهد حقيقة مثل هذا التجسد للدولة بمفهومها الصريح، فنقول: هذه حقيقة تاريخية لا يمكن القفز من فوقها، ولكن نقول أيضاً: إن محمداً () لم يفكر بطريقة البشر، ولا حتى بطريقة أرقاهم فكراً، إنه كان يفكر ويعمل بطريقة الوحي فالله تعالى هو الذي ألهمه أن يعمل لمثل هذا الأمر.
فالأمر لو كان مجرد تبليغ للناس بالرسالة الجديدة لكان الأمر أهون بكثير، إذ كان بوسع النبي () أن يقبع في مدينته يدعو الناس إلى دينه الجديد، ولا يكلف نفسه مشقة وعناءً، بل إن غاية ما يمكن أن يفعله أن يتوجه إلى وفود العرب القادمة للحج إلى الكعبة المشرفة فيتصل بأحدهم ليبلغهم رسالته، فمن رضي وقنع وتابع فبها ونعمت، أما من أنكر وكذّّب فعليه وزره، كما كان بالإمكان حصر الدعوة بالفقراء والمستضعفين الذين يسهل التأثير عليهم من أجل تغيير قناعاتهم، بل إن بعض الأمنيات والوعود كفيلة بتحقيق ذلك.
غير أننا نجد أن النبي () لم يكتفِ بذلك بل إن في جهده الدعوي ما يشير إلى أبعد من هذه التصورات البسيطة، من ذلك أنه كان يتوجه في دعوته إلى الملأ أيضاً وإلى وجوه القوم وكبرائهم، لأن النجاح في كسب أمثال هؤلاء إلى الدعوة له الدلالات الآتية:
إن ذلك يجعل انتشار الإسلام أكثر سرعة، فهؤلاء لهم من الأتباع الذين يقلدونهم في أفعالهم وأفكارهم، فضلاً عن أن لهؤلاء (نفوذاً) فاعتناقهم الإسلام يمنحه (قوة ونفوذاً) أكبر تجعله يقترب من أهدافه أكثر، وهذا ما يفسر المحاولات التي قام بها النبي () مع بعض رجالات الملأ المكي على الرغم من أنهم كانوا الأشد عداءً للإسلام؟.
ثم إن النبي () لم يكتفِ بمهمة التبليغ في مكة، بل قرر أن يكسر هذا الطوق فتوجه إلى طائف للقيام بهذا الفرض، التي خرج إليها ليدعو أهلها إلى الإسلام، ولكنه لم يدعُ عوام الناس من أهلها بل انصب جهده على دعوة كبراء القوم ووجوههم أمثال: عبد ياليل، وغيره.. وهذا له المعاني الآتية:
إن إجابة هؤلاء الكبراء يعني استجابة بقية أهل الطائف، وهذا يعني توفر مقومات إقامة كيان للإسلام، كيان مادي يقود إلى إنشاء (الدولة) حيث ستتوفر عناصر هذا المشروع، (الوطن=الطائف) و (الشعب=أهل الطائف) و (العقيدة=الإسلام)، غير أن هذه الخطوة لم تنجح لحكمة أرادها الله تعالى، لعلها تتمثل في ضرورة (تكرار الدرس) حتى يتعلمه اللاحقون جيداً.
فتكرر الدرس بل شارف على النجاح عندما دعا النبي() أحد رجالات عامر بن صعصعة إلى الإسلام، فنظر هذا إلى الأمر نظرة ثاقبة أدرك من خلالها التحولات التي يمكن أن يشهدها الأمر في تجلياته المستقبلية، فسأل النبي () ترى ما عساه أن يحصل عليه بعد أن يقدم التضحيات الكبيرة جراء قبوله بالإسلام والعمل من أجله؟ هل يتعهد النبي() له بأن تكون الأمور كلها (=الدولة) بأيدي قومه بعد وفاة النبي ()؟ فرد عليه النبي أن الله تعالى يجعل الأمر حيث يشاء. فلم يقتنع الرجل بالإجابة، فانصرف. غير أن هذه الواقعة تبين أن هناك من تفهم حقيقة ما ستؤول إليه الأمور، وهي أن دعوة هذا الدين لابد من أن تسفر عن إقامة دولة، فإذا كان هذا ما تفهمه البعض فكان النبي () أولى بإدراكه والعمل له.
من العرض الآنف تتبين أول ملامح منهج العمل لهذه الدولة، وهو التوجه نحو (النخبة) ودعوتها لقبول الرسالة الجديدة والعمل من أجلها، لأن هذه النخبة قادرة على إجراء (التغيير) المطلوب لإقامة الدولة، فهي التي تمتلك القوة و القرار الكفيلين بتحقيق هذا التغيير.
استمر النبي () في التوجه بخطابه ودعوته نحو النخبة حتى قضت رعاية الله تعالى أن يلتقي النبي () بوفد من أهل يثرب ووجهائهم جاءوا إلى مكة حاجين، فدعاهم النبي إلى الإسلام وكان ثمة إيجاب وقبول، ولكنه احتاج إلى الأناة والمشاورة مع الآخرين، فالتغيير القادم سيكون منعطفاً خطيراً في حياة القوم، فتمت في العام اللاحق بيعة العقبة الأولى.
وكانت بيعة على القبول بالدين الجديد من دون أية وعود بمكاسب دنيوية وتحولات اقتصادية وما إلى ذلك، بل هي بيعة على الدين وحسب، ثم تمت في العام اللاحق بيعة العقبة الثانية (بيعة الحرب) وسميت بذلك لأنها تضمنت الاستعداد للحرب دفاعاً عن النبي () وعن الدين الجديد إذا ما ظهر خطر داهم.
وعلى موجب هذه البيعة أذن النبي ()لأصحابه بالهجرة إلى الوطن الجديد، ثم أذن الله تعالى له بالهجرة.
توجه النبي إلى يثرب التي باتت تعرف بالمدينة، ولما بلغها استقبله أهله بحفاوة وتكريم وحب قل مثيله، وكان ذلك بصفته (النبي) الذي سيهديهم إلى سبيل النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
لكن الأمر لم يتضمن في البداية أية دلالات على (زعامة) سياسية، وهي التي كان لابد منها لإقرار مبدأ الدولة، فكان لابد من التمهيد لذلك والعمل له بعناية فائقة، ومن البديهي أن نستبعد هنا أية غايات دنيوية على معنى الزعامة هذا، ولو كان الأمر كذلك لكان تحقيقه في مكة أسهل بكثير، وكان ذلك مما عرض عليه من خلال بعض المساومات مقابل التخلي عن الدعوة الجديدة، وكانت إجابة النبي على الدوام بالرفض.
أما الزعامة في المدينة فباتت تعني شيئاً آخر، فهي لازمة لإقامة الدولة التي ستطبق نظام الإسلام.
كيف يمكن تحقيق الزعامة في مجتمع لا يزال يتلمس خطواته الأولى نحو التشرب بمفاهيم الإسلام والروح القبلية ما زالت قوية فيه، والزعيم لابد أن يكون من أبناء القبيلة الصليبة، كيف يمكن تحقيق الزعامة في مجتمع يتضمن عناصر متنوعة بل لكل منها نفوذ وقوة، مسلمون ويهود ومشركون.
كل ذلك يتطلب اتخاذ الخطوات المناسبة، فكانت الخطوة الأولى إعلان نظام المؤاخاة بين المسلمين كافة، ولا ريب أن هذا النظام كانت له ضروراته الاقتصادية الملزمة، لكنه أفرز من ناحية أخرى معطيات اجتماعية أسفرت عن نتائج سياسية خطيرة، فبموجب هذه المؤاخاة انتفت الأخوة القبلية لتحل محلها أخوة العقيدة، الأخوة في الإسلام. لقد كان المسلمون بما فيهم النبي () بعد هجرتهم إلى المدينة (حلفاء) لأهل يثرب وليسوا صليبة من أبنائها، والحليف لا يحل له بموجب الأعراف القبلية أن يكون زعيماً، أما بعد المؤاخاة فلم يعد ثمة صليبة وحلفاء بل إن الجميع إخوة بموجب الرابطة العقدية والاجتماعية الجديدة، وهي الرابطة التي هيأت للنبي () الظرف المناسب لتولي زعامة المسلمين جميعاً في المدينة المنورة.
ثم أعقبتها الخطوة الثانية التي تمهد لقبول بقية الأطراف الرئيسة في المدينة التسليم بهذه الزعامة، وتمثل هذه الخطوة بإعلان النبي () الصحيفة المدنية التي نظمت العلاقة بين المسلمين واليهود في المدينة، التي نصت على أن أي خلاف في فهم مضامين هذه الصحيفة فإن الحكم فيه هو النبي ()، وهذا إقرار صريح وتسليم بالزعامة الكلية له، وجاءت بعد ذلك عوامل التربية الروحية التي تؤكد على وجوب طاعة النبي، بل إن طاعته من طاعة الله تعالى، لترسخ مفهوم القيادة السياسية والروحية للنبي في المجتمع الجديد.
أما القول إن المهمة التي تولاها الصحابي الجليل مصعب بن عمير () في المدينة ودامت عاماً كاملاً هي التي مهدت لقيام هذه الدولة، فإن ذلك يقوم على قصور في إدراك الحقائق، فإن النص الوارد في كتب السيرة ويشير بعد انتهاء هذا العام إلى أنه لم تبق دار في يثرب إلا وفيها ذكر للإسلام، فإنه لا يعني ضرورة اعتناق جميع الناس الإسلام، بل يعني النص في غالب الأمر شيوع ذكر الإسلام وأخباره على صعيد تناقلها بين الناس، بدلالة أن يثرب اشتملت على أعداد غير قليلة من مشركي الأوس والخزرج بعد الهجرة.
ثم إن أعداد المنافقين تؤكد مثل ذلك أيضاً وقد كانوا عدة مئات من الرجال، في مجتمع الأوس والخزرج الذي لم يكن كبيراً جداً، بل إن المهمة الرئيسة لمصعب بن عمير () بعد تعليم الناس القرآن وتعاليم الدين الجديد دعوة بقية كبراء القوم إلى الإسلام، وهو ما نصت عليه كتب السيرة بوضوح بمعنى أنه استكمل الجهد المتجه نحو النخبة.
خلاصة هذه القراءة المركزة لمعطيات السيرة النبوية أن النبي () في سعيه لإقامة الدولة ركز جهداً كبيراً على مخاطبة (النخبة) ولكنها النخبة (القادرة) على إجراء (تغيير فوقي) في بنية السلطة السياسية تمهد لأن يكون الإسلام هو القوة الحاكمة المتقلدة للأمور، الأمر الذي يمهد لإقامة نظام الحياة على وفق التصور الإسلامي لها، وبالتالي لم يكن التثقيف الشامل الواسع النطاق هو المنهج الذي توصل إلى إقامة كيان الإسلام ودولته، بل إن التثقيف الدعوة عمل مكمل للتغيير السياسي المقصود والمبرمج والمخطط الذي يفضي إلى تولي السلطة السياسية في البلاد، ومن ثم استكمال عملية التغيير في البنى الأخرى في المجتمع.
\
أستاذ مادة التاريخ في كلية الآداب \ جامعة الموصل