الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، واهتدى بهداه إلى يوم الدين ، أما بعد :
فالقضاء والقدر ركن عظيم من أركان الإيمان ، وغصن رطيب في شجرة الإيمان بالله ، لا يتم الإيمان إلا به ، ولا يغدو المسلم مؤمناً حقاً إلا باستكمال تلك الأركان ، والتعامل معها التعامل الأمثل .
وحين تميد بالمؤمن موازينه الاعتقادية ، فهو متخبط – لا محالة – في دروب الضياع الروحاني ، وواجد – لجهله – منغصات في حياته قد تقوده إلى إنهاء حياته ، ووضع حد لعمره والعياذ بالله .
وإن نجاه الله من الانتحار فسيعيش يكتوي بمنغصات تصورها ، وظن – لابتعاده عن الطريق السوي – أنها سبب تعاسته ، ويد تلطمه صباح مساء ؛ لتجرعه الأسى وتذيقه الكمد .
وما كل ذلك إلا لأنه أخل بموازين الإيمان ، واضطربت عنده أسسه ، وسترت الغشاوة بصره عن التفكر في الحياة وسننها .
لكن المؤمن الحق ، الذي يسير وفق المنهج الرباني ، وتوجه حياته قيم إيمانية ، يعيش مطمئن البال ، منشرح الصدر ، ثبت الجنان ، يعلم أن ما كان مصيبه لن يخطئه ، وما قُدر لغيره فلن يصل إليه حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
الإيمان بالقضاء والقدر يحمل المؤمن على العمل فإن أصابته مصيبة حمد الله عليها ، ثم استأنف العمل لإزالة آثار المصيبة والتقليل من أضرارها عليه وعلى أهله .
وقد نص الحديث على أن الإيمان يكون بالقضاء والقدر خيره وشره ، فالشر هو الرضا بالمصيبة ، ومحاولة صد آثارها .
أما الإيمان بالقدر في جانب الخير ، فهو شكر الله على النعمة ، ومعرفة أن الخير قد يكون ابتلاءً لتمحيص المؤمن ، فيحمله ذلك على عدم الاغترار ، والإيمان بأن هذا الخير من عند الله ، قادر سبحانه أن يزيله كأن لم يكن .
وقد اختلف المسلمون في فهم هذه العبادة العظيمة ، فسما بعضهم فعلا الثريا ، وانحط آخرون فلامسوا الثرى .
ولآن الأدب مرآة المجتمع ، وانعكاس لأفكاره ومذاهبه ، فقد تأثر – وخاصة الشعر- بذلك الفهم سلباً وإيجاباً ، فأنت واجد من ذلك نماذج كثيرة وشواهد وفيرة .
وفيما يلي عرض لأمثلة اختلت بأصحابها الموازين ، ومادت بهم قاعدة الإيمان فراحوا يسبون الدهر ، أو يتناولونه بما ليس فيه ، فأهلكوا أنفسهم ، وحمّلوها ما لا تطيق ، فعفا الله عنهم ، وتجاوز عنهم اعتدائهم ومخالفتهم .
وممن خاضوا في القضاء والقدر بما لا يليق ، ورموه بما ليس فيه : ابن الرومي ، فقد جزع لفقد ابنه ، وآلمته المصيبة ، فقال وهو يرثيه :
ألا قاتل الله المنايا ورَميَها
من القوم حبّاتِ القلوب على عَمد
ما ذا يريد الشاعر بهذا القول ، فالمقادير من صنع الله عز وجل وتدبيره ، فمالك يا ابن آدم فيها أمر ، فارض بما قضى الله واسأله العافية .
ويبدو أن فقد الابن غشاوة تصد البصر الحصيف ، فهذا شاعر آخر قد توفي ابنه ، فأطلق للسانه عنانه ، وحاول التدخل في تقدير العزيز العليم قائلاً :
رُزئتُ أبا بكرٍ على شَغَفي بهِ
فيا لَهْفَتا ماذا جَني الحادِثُ البِكْرُ
لِسبعٍ مَضتْ من عُمرهِ غالَه الرّدى
وكنتُ أُرجِّي أن يطولَ به العُمْرُ
وقلتُ عتيقٌ من خُطوبِ زَمانِهِ
عتيقٌ بهذا يخبرُ الفأْلُ والزَّجْرُ
فعاجلَه قَبلَ التَّمام حِمامُهُ
ولا عجبٌ قد يُخْضَدُ الغُصُنُ النَّضْرُ
إن الآجل قد وضعها الله حداً لأعمار الخلق ، وليست عقاباً على شيء حتى يتسائل الشاعر عن جريرة ابنه وذنبه ، ثم من قال : إن أعمار بني آدم لها حد معلوم ، ووقت محسوم ؛ حتى يكون من قضى نحبه قبلها غير تام العمر ؟.
الحزن أمر مشروع ومتنفس مقبول ، لكن الاعتداء في القول والتجاوز في الخطاب، ذلك ما لا يترك للشاعر ولا يصفح له عنه .
إن مما أهلك الشعراء – علاوة على ذلك – هو قلة الأدب مع القدر ، ورمي الدهر بما لا يليق ، فهذا الشاعر نفسه آلمه ما أصاب قومه وبلدته ( شيزر ) من زلزال أهلكهم ، وجعلهم شذر مذر ، فقال يرثيهم متألماً ، ونظم يؤبنهم حزيناً ، فطاش سهمه، وفقد صوابه ، فنعت الدهر بسبّة ، فقال :
كما وجدتُ على قَومي تخوُّنَهم
ريبُ المَنونِ ودهرٌ طالَما خَانا
إن تصوير الدهر على صورة من تضطرب عيناه ، ويتحين الفرصة لينقض على فريسته أمر غير مقبول ، ثم زاد الطين بلّة ، فاعتدى على الدهر ووصفه بـ( طالما خانا ) ، وهذه مجاوزة في الحد ، وانحطاط في الأدب ، كيف ينعت الدهر بالخيانة الفاشية ؟، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث القدسي : "قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ، وأنا الدهر أقلب الليل والنهار "أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وفي العصر الحديث زاد التجاوز ، وكثر الاعتداء ؛ لبعد الناس عن المنهج الصحيح ، وانتشار الجهل ، وقلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وفي طليعة هؤلاء الشعراء ( أبو القاسم الشابي ) الذي أطلق لقلمه العنان ، وترك لسانه على علاته ، حتى غدت كثير من قصائده حفراً من نار توشك أن تهلك من اقترب منها ، فمن ذلك قوله في قصيدة ( إرادة الحياة ) :
إذا الشّعْبُ يَوْمَاً أرَادَ الْحَيَاةَ
فَلا بُدَّ أنْ يَسْتَجِيبَ القَدَر
وَلا بُدَّ لِلَّيْلِ أنْ يَنْجَلِي
وَلا بُدَّ للقَيْدِ أَنْ يَنْكَسِر
هكذا يريد الشاعر من القدر أن يتغير تدبير الله فيه نتيجة إرادة مخلوق طرأ له يوما أن يحيا كما يشاء ، أين إذن تقدير الله القديم ، يوم أن قال للقلم اكتب ، فكتب ما كان وما سيكون إلى يوم القيامة ، هل يُمحى ذلك كله استجابة لإرادة لم تصل إلى حد التصريح ؟
ثم يقول في ذات القصيدة :
إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ
فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ
ويقول في قصيدة نشيد الجبار :
وأقول للقَدَرِ الذي لا يَنْثني
عن حرب آمالي بكل بلاءِ:
"-لا يطفىء اللهبَ المؤجَّجَ في دَمي
موجُ الأسى ، وعواصفُ الأرْزاءِ
«فاهدمْ فؤادي ما استطعتَ، فإنَّهُ
سيكون مثلَ الصَّخْرة الصَّمَّاءِ»
يا للعبد المسكين ، من هو حتى يعاديه القدر ، وللقدر ما أوكله الله له من أمور عظام ، ليس هذا العبد إلا جزءاً حقيراً منها ، وذرة من ذرات كون فسيح بديع .
ومهما كانت الجودة الفنية عالية ، فإن المضمون مهم ، والمعاني هي الغاية ، فلا يُغطّى عوار المعاني بوشاح الفن الزاهي وألوانه البهيجة .
وقد تعدى اعتداء هذا الشاعر على القدر إلى أن فاحت عناوين قصائده بتجاوزاته ، فله قصيدة عنوانها : ( سئمت الحياة ) ، فيها ما فيها من التبرم بأقدار الله ، و التسخط من قضاء الله وقدره ، وكان مما قال فيها :
سَئِمْتُ الحياة َ، وما في الحياة ِ
وما أ، تجاوزتُ فجرَ الشَّبابْ
سَئِمتُ اللَّيالي، وَأَوجَاعَها
وما شَعْشَعتْ مَنْ رَحيقِ بصابْ
ويقول :
أيُّها الليلُ! يا أَبَا البؤسِ والهَوْ
لِ،! ياهيكلَ الحَياة ِ الرَّهيبِ!
فِيكَ تَجْثُو عرائسُ الأَمَلِ العذْ
بِ، تُصلَّي بصَوتِها المحبوبَ
واسمع له يتسائل :
فقل لي: ما جّدوى َ الحياة ِ وكربِها،
وتلك التي تزوي، وتلك التي تنمو؟
ثم يجيب :
لِتعْسِ الوَرى ، شاءَ الإلهُ وجودَهم
فكانَ لَهُمْ جهلٌ، وكانَ لَهُمْ فهمُ!!
أعوذ بالله ، ألم يسمع قوله تعالى : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " ؟ ألم يقرأ " ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون " .
ولضيق المقام ؛ سأورد بعض الأمثلة دون تعليق :
فاروق جويدة : ( النفط )
" الله أكبر من جنون الموت
والزمن البغيض الظالم
بغداد لا تستسلمي
بغداد لا تستسلمي
من قال إن النفط أغلي من دمي؟!"
وقال ( ويضيع العمر ) :
" يا رفيق الدرب
ما أقسى الليالي
عذبتنا ..
حطمت فينا الأماني
مزّقتنا ..
ويح أقداري
لماذا .. جمّعتنا "
ويقول يوسف الديك في قصيدة ( يا بحر ) :
"واسعٌ يا بحرُ... أنتَ،
وضَيِّقٌ شريانُ قلبي
غادرٌ هذا الزمان
إني أشْتَمُّ الخديعةَ في الجرائدِ، والقصائدِ، والمواقدِ، والهواءْ. "
وكما أخطأ شعراء في التعامل مع القدر ، فقد أصاب آخرون وهم – بحمد الله – كثر ، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر :
أسامة بن منقذ ، فمن ذلك قوله يحذر من فجأة القدر وينصح بالاستعداد لما بعد الموت :
أيّها الغافِلونَ عن سَكرةِ المو
تِ وإذْ لا يسوغُ في الحلقِ رِيقُ
كَم إلى كَم هذا التَّشاغُلُ والغَف
لَةُ حارَ السّاري وضلَّ الطّريقُ
إنّما هزَّتِ الزَّلازلُ هذي ال
أرضَ بالغافلين كي يَستَفيقُوا
ومن المحدثين الشاعر بدوي الجبل ، واسمه محمد بن سليمان الأحمد ، أرقه ما رضي به بعض أهل سورية من الهوان والهزيمة بعد ميسلون ، فراح يحرك فيهم إباء المسلمين ، وبطولة الشجعان فقال في قصيدته ( بدعة الذل ) :
كيف أغضي على الهوان لجبّار و عندي الشباب و العنفوان
ما لسلطانهم على الحرّ حكم كلّ نفس إباؤها سلطان
فلكي ثابت و لا خير في الأف
لاك يملي نظامها الدوران
إن اختلال الفهم للقدر يجعل الإنسان يعظم الإنسان ، ويلبسه من الصفات ما لا يملكها ، حتى يجعل له من الصفات ما لا يصلح إلا لرب الأرض والسماوات :
بدعة الذلّ حين لا يذكر الانـ
سان في الشام أنّه إنسان
بدعة الذلّ أن يصاغ من الـ
فرد إله مهيمن ديّان
وبعد ، فإن القضاء والقدر في عقيدة المؤمن ركن لا يتم الإيمان إلا به ، والرضا بما يقع للإنسان مما حل به من خير أو شر واجب لا مندوحة عنه ولا سبيل إلى رده ، لكن هذا لا يعني الجلوس في المحراب وترك العمل ، لا يعني ترك الحق بحجة القضاء والقدر ، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يقف عند خذلان أهل الطائف له رغم أن ذاك من القضاء والقدر الذي كتب عليه، لم يقف أيضاً عند هزيمة أحد وقتل سبعين من أصحابه . لم يتمارض صلى الله عليه وسلم حين علم بالشاة المسمومة رغم أنه عليه الصلاة والسلام أخبر أنه لازال يجد من الألم حتى قُبض صلى الله عليه وسلم .
وواجب الأدب أن يتماشى مع تلك العقيدة ، ويسير وفقها ، وأن ينضبط بضوابط القضاء والقدر، ثم ليقل بعد ذلك ما شاء من موضوعات لا تمس ثوابت المسلم ولا تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وائل العريني
16/9/1427هـ