بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!
د. فريد الأنصاري(*)
( 1 )
هل بقي شك في أن (العولمة) ــ بوجهها الكالح ــ قد اكتسحت فعلاً؟ وهل بقي شك في أنه قد تم احتلال الإنسان قبل احتلال الأوطان؟ ثم من ذا يتردد بعدُ في ملاحظة التحولات العالمية؟ أليست الأرض تدور اليوم على غير طريقتها المعتادة؟ ألا تدخل الأمة الآن منعطفاً جديداً من تاريخ علاقاتها مع نفسها، ومع الآخر؟
ألم تكشف الصهيونية ــ بوجهها الأمريكي ــ القناع عن غطرستها؛ استخفافاً بالعرب والمسلمين؛ في أجرأ حركة من تاريخها تجاه الأمة الإسلامية؛ استعداداً لشيء ما؟
لقد تقارب الزمان اليوم لينكشف عن شيء، والعالم يتهيأ له بدول تتوحد وتتكتل، وأخرى تتمزق وتتفرق، وبرموز تقوم وأخرى تنهار! فانطلاقاً من سقوط الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين بدلالاته السيميائية العميقة، حتى أحداث 11/9/2001م بأمريكا؛ كانت موجة أخرى من تاريخ التدافع الحضاري تتجمع؛ لتنطلق بأول عملية احتلال عسكري في القرن الحادي والعشرين الميلادي، وتدخل أمريكا العالم الإسلامي غازية بلا قناع سياسي! تدخل بخلفيتها الشمولية المتطرفة، الجامعة بين المطامع الاقتصادية والأيديولوجيات العقدية من (المسيحية الصهيونية)؛ فتكون العراق أول قنطرة للعبور إلى غزو جديد للأمة الإسلامية، بتجليات متعددة، قد تختلف مظاهرها من قُطر إلى قُطر ولكن مآلها واحد: هو الهيمنة العولمية الحديدية على العالم الإسلامي، وها هنا: تعددت الأشكال والموت واحد!
إن الغزو الأمريكي للعالم الإسلامي في صورته الجديدة الحاصلة اليوم؛ لهو صفعة قوية في وجه الأمة! ليس - فقط - من حيث هي أنظمة خانعة، أو متخاذلة، أو متواطئة؛ ولكن أيضاً من حيث هي مشاريع نهضوية فكرية، وقومية، ووطنية، بل حتى إسلامية أيضاً! ولِمَ لا؟ وسترى ذلك بدليله بعدُ خلال هذه الورقات بحول الله.
لقد انتهى زمن وكالة الأنظمة العربية؛ فالآن أمريكا هي التي تَعتقِل، وهي التي تحاكِم، وهي التي تصادِر، وتلقي القبض على من تشاء كما تشاء! فأيما خطيب، أو مفكر، أو داعية ـ أو ربما حتى عابر ـ أزعجها بكلمة؛ أصدرت أمرها باعتقاله، ولم تعد تبالي ولا حتى بحرج النظام العربي الذي يعيش ذلك المطلوب في حوزته وتحت سلطانه! وتلقي القبض عليه هي بنفسها هنا أو هناك في أي مكان من خريطة العالم الإسلامي!
ثم بعد هذا وذاك: من الذي يستطيع نقض مقولة اليقين: إن المسلمين اليوم يعتصمون بآخر القلاع الحضارية لوجودهم؟
وينتصب السؤال المرير: أين الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي؟ أين أكثر من قرن من الزمان مضى في بناء التنظيمات والجماعات؟ أين الخطط والبرامج والاستعدادات؟
ألم يئن الأوان بعد للمراجعة والمساءلة لحركات الدعوة الإسلامية هنا وهناك؟
إلى متى ونحن متشبثون بخطط خرقها الغرب واخترقها أكثر من مرة؟ ثم أتت عولمة النظام العالمي الجديد على آخر ما بقي منها! فلم يعد لها غير عجيج المظاهرات، وصراخ المهاترات؟! إلى متى ونحن متشبثون بوهم (إننا قادمون!) والواقع يشهد أننا (متراجعون)؟ تماماً كما تشبث نظام العراق المخلوع بوهم (خططٍ للسحق والتقطيع)؛ لم تلبث أن دكتها الدبابة الأمريكية، ولَمَّا تنقطع أصداء كلماتها الرنانة في الفضائيات!
أين الحركات الإسلامية من الإسلام؟ وإلى أي حد هي فعلاً (تجتهد) ـ بالمعنى الحقيقي للكلمة ـ من داخل بنية النص الشرعي، ومنظومته الاستدلالية؛ للتمكين لهذا الدين؟ أين هي الاستراتيجيات الدعوية، والجهادية؟ وأين موازين نقدها وتمحيصها؟
أليس قد آن الأوان فعلاً؛ لتجديد النظر في الأساليب التربوية، والمنهجيات الدعوية في زمن لم تعد فيها ظلال الأنظمة كما كانت، ولا مظاهر العدوان كما كانت، وصار العدوُّ - عن كثب - يراقب برامج التعليم، وخطب المساجد، والعلاقات الأسرية، ويحصي دور القرآن، والمعاهد الدينية، ونسبة الولادات؟ أليس قد آن الأوان لبعثة جديدة تجدد أول ما تجدد هذه (الحركات الإسلامية) نفسها! والتي تقادم لديها مفهوم (التجديد) فلم تعد قادرة على إعطاء ما لا تملك؟ إلى متى ونحن صامتون ومترددون في وضع الإصبع على مواطن آلامنا وأدوائنا وقد امتدت يد الأمريكي إليها قبل يدنا؛ لتعالجها ـ ولكن مع الأسف ـ بدوائه لا بدوائنا، وبطريقته لا بطريقتنا؟!
من هنا إذن؛ كانت هذه الكلمات التي إن أوردتُ فيها شيئاً عن نقد (الحركة الإسلامية)؛ فإنما هو محاولة للفت النظر إلى أن الوقت الذي نعيشه اليوم قد تضايق وتقارب؛ حتى لم يبق منه - لفوات الواجب ـ إلا وقت الضرورة! فمن ذا يحاول منا أن ينتقل من الشكل إلى الجوهر في (بعثة التجديد المقبلة)؟ ومَنْ ذا يبادر لتسجيل خطوة الانتقال التاريخي الكبير مع منعطف العولمة المظلم؛ من (الحركة الإسلامية) إلى (حركة الإسلام)؟
تلك أسئلة نحاول مقاربتها في هذه الورقات؛ عسى أن يقيض الله لها من يُخرِج من تبنها حباً نافعاً! وإنما الموفق من وفقه الله.
يتبع