( 11 )
ثالثاً: يسر الدعوة وبساطة المفهومات:
إن من أهم معالم البعثة النبوية؛ أنها تميزت باليسر، والسهولة في الخطاب، وفي التكليف، وهذا أمر مهم جداً لضبط الاتجاه الدعوي المعاصر؛ ذلك أن بعض الحركات الإسلامية إنما انغلقت على نفسها بسبب عسر مفهوماتها، وتنطع فهمها، وما جرت عليه من حمل الناس على العنت، وقد تواتر في الدين مفهوم (رفع الحرج)، وما تعلق به من قواعد كلية، فالنصوص القرآنية والحديثية مجمعة على هذا المعنى؛ بما يجعله كلية قطعية من كليات الدين؛ دعوةً، وتكليفاً. فالخطاب القرآني صرح بذلك تصريحاً، ونص الحـق ـ جـل وعلا ـ على اليسر بإطلاق، فقال ـ سبحانه ـ: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر: 32]، وقال ـ تعالى ـ: {فَإنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58]، وقال ـ جل وعلا ـ في الآية الجامعة المانعة، على سبيل الشمول والاستغراق: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، إلخ.
وأوصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مبعوثيه إلى اليمن جابر بن عبد الله ومعاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما ـ فقال لهما: «يَسّرا ولا تُعَسّرا، وبشّرا ولا تنفّرا»(14)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «إنّ هَذَا الدّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادّ الدّينَ أَحَدٌ إلاّ غَلَبَهُ، فَسَدّدُوا، وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَيَسّرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرّوْحَةِ وَشَيْء مِنَ الدّلْجَة»(15). ومثله قوله -صلى الله عليه وسلم-: «يَا أَيّهَا النّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنّ الله لاَ يَمَلّ حَتّى تَمَلّوا، وَإِنّ أَحَبّ الأَعْمَالِ إِلَىَ الله مَا دُوِمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلّ»(16)، وروى الصحابي الجليل أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: «جاء ثلاثة رَهْط إلى بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلما أُخبروا كأنهم تَقَالُّوهَا، وقالوا: أين نحن من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً! وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر! وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً! فجاء رَسُولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله! إني لأخشاكم لله وأتقاكم له؛ لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني»(17)، ومثل هذا في السُّنة كثير جداً؛ مما يفيد استقراؤه كليةً قطعية من كليات الدين، فوجب إذن أن يؤخذ على هذا الوزان؛ تكليفاً وتعليماً، ودعوةً وتزكيةً، وما خالفه فإنه يُرَدُّ إليه.
ولذلك قال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية ـ رحمه الله ـ من بعد ما سرد عدداً من أدلة اليسر والتيسير في الشريعة: «وهذا وأمثاله في الشريعة أكثر من أن يُحصر! فمن قال إن الله أمر العباد بما يعجزون عنه ـ إذا أرادوه إرادة جازمة ـ فقد كذب على الله ورسوله، وهو من المفترين»(18).
ولقد التقط أبو إسحاق الشاطبي هذا المعنى العظيم، فجعله أصلاً من أصول المقاصد، حيث استعمل مصطلح (الأمية) في وصف الشريعة، لكن ليس بمعنى الجهل، وهذا أمر غلط فيه كثير من طلبة العلم، ممن قرأه في كتاب الموافقات؛ فمن السذاجة أن يفهم عن أبي إسحاق ـ رحمه الله ـ أنه يصف الشريعة بالجهل، أو أنها غير صالحة إلا للعوام! كيف وهو شيخ المقاصد المجدد لعلم أصول الفقه؛ ولكن بمعنى السهولة والبساطة واليسر في الفهم وفي التكليف؛ على ما أصلنا آنفاً.
وقد نقل المصطلح من دلالته اللغوية، الدالة على الجهل بالحساب والكتاب، ليستعمله في وصف الشريعة نفسها، لكن بدلالة أخرى اصطلاحية، على مفهوم منهجي، متعلق أساساً بمعنى اليسر المشترك في التكليف، وفي تطبيق الشـريعة، قال ـ رحمه الله ـ في المسألة الثالثة من كتاب المقاصد في الموافقات: «هذه الشريعة المباركة أمية»(19). وهو ما فسره في موطن آخر بقوله: «ربما أُخِذ تفسير القرآن على التوسط والاعتدال، وعليه أكثر السلف المتقدمين، بل ذلك شأنهم، وبه كانوا أفقه الناس فيه، وأعلم العلماء بمقاصده وبواطنه. وربما أُخِذ على أحد الطرفين الخارجين عن الاعتدال؛ إما على الإفراط، وإما على التفريط، وكلا طرفَيْ قَصْدِ الأمورِ ذَميمٌ! فالذين أخذوه على التفريط قصروا في فهم اللسان الذي به جاء، وهو العربية، فما قاموا في تفهم معانيه ولا قعدوا! كما تقدم عن الباطنية وغيرها. ولا إشكال في اطراح التعويل على هؤلاء، والذين أخذوه على الإفراط أيضاً قصروا في فهم معانيه، من جهة أخرى. وقد تقدم في كتاب المقاصد بيان أن الشريعة أمية، وأن ما لم يكن معهوداً عند العرب فلا يعتبر فيها»(20).
وهذا معنى عظيم؛ إذْ عدم اعتباره أدى بكثير من الناس إلى الزيغ عن جادة المنهج النبوي، في الدعوة والتكليف، وإنما الأصول قائمة على حمل الناس على الوسط والتوسط، والاعتدال، لا على الغلو؛ سواء في ذلك: الفهم أو التكليف.
فالداعية قد يؤدي به التمسك بآحاد الأدلة ـ دون اعتبار كلياتها الأصولية ـ إلى الانحراف في المنهج. كما أن مراعاة بعض الجزئيات في الفهم والإفهام لا ينقض ما تقرر قطعاً في الكليات الاستقرائية، فقد تقرر مثلاً أن الدعوة يجب أن تقوم على منهج التيسير والتبشير؛ قصد التمكين من عموم التطبيق والتنزيل، فإذا وجد ما يخالفه حمل عليه وأرجع إليه. وعدم مراعاة ذلك يوقع في إشكالات منهجية، ويؤدي إلى مناقضة الفروع للأصول وهو محال.
فليس كل شيء يتناوله البحث، ويصح في التحليل والاستدلال؛ يصلح ليكون مادة للدعوة والتربية، ومقصداً شرعياً يخاطب به عموم الناس. إن السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن تبعهم على منهجهم؛ إنما كانوا على (عقيدة سلفيةٍ موضوعاً؛ تربويةٍ منهجاً)، لا على (عقيدة سلفيةٍ) موضوعاً، (جدليةٍ) منهجاً، وفرق بينهما كبير!
إن (العقيدة السلفية موضوعاً؛ التربوية منهجاً)؛ هي التي وردت في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي التي خرّجت جيل الصحابة والتابعين، وسائر العلماء الربانيين، وهي التي أطاق الجمهور من المسلمين اعتقادها والعمل بها، وكانوا بها صالحين.
فلم تكن البعثة المحمدية إلا بسيطة وسهلة، وميسرة تيسيراً في الفهم والعمل، ولا نجاح لعمل دعوي يخرج عن هذا المنهج، ولذلك كان هذا مَعْلَماً من معالم (بعثة التجديد)، فحاجة العالَم اليوم إلى الدين شديدة، وعودة الناس إلى الله رغبة أكيدة، وهي كامنة في الوجدان الإنساني، تنتظر أهل البعثة ليكتشفوها، وينزلون عليها كلمات الله طريةً ندية. وأما التعقيد فلا يجعل ماءها إلا غوراً، فلا يستطيع المعنتون له طلباً.
البعثة اليوم ـ بعد ما حفره رجال الصحوة والدعوة، من أهل الحركات الإسلامية وغيرهم ـ هي على عمق صخرة واحدة، قريبة ورقيقة، تحتاج إلى من يكشف عنها شقاً واحداً؛ لتتدفق جداول وأنهاراً.
يتبع