إذا كان "إكرام الميت دفنه" كما يقال، فإن الشخص الذي نحن بصدد الحديث عنه اليوم قد أهين حياً وميتاً. خلق هذا الشخص ليكون أماً رؤوماً لمئات الملايين من العرب، يحنو عليهم ويعوضهم فقد الحنان الذي فاتهم بسبب ضيم الاستعمار الغربي، فجاء هذا المخلوق ليعبر عن الوحدة العربية وسمي "جامعة" تفاؤلاً في جمع كلمة الأمم التي كانت واحدة ثم تفرقت أيدي سبأ.
جامعة الدول العربية التي أنشئت في 19 مارس 1945، جاءت استجابةً لدعوة من وزير خارجية بريطانيا انتوني إيدن الذي دعا في 29 مايو 1941 إلى تحقيق وحدة عربية، ثم صرح الوزير المذكور في مجلس العموم البريطاني في 24 فبراير 1943 بأن الحكومة البريطانية "تنظر بعين العطف إلى كل حركة بين العرب ترعى إلى تحقيق وحدتهم الاقتصادية والثقافية والسياسية".
أكثر من ستين عاماً انقضت منذ إنشاء الجامعة العربية ولم تَخطُ الجامعة خطواتها الأولى بعد، فلم تحقق الجامعة لشعوبها وحدة اقتصادية أو ثقافية أو سياسية أو دبلوماسية أو عسكرية أو حتى اجتماعية، رغم وحدة لغة ودين وعنصر شعوبها.
مشاكل الجامعة العربية تبدأ للمتأمل منذ قراءة الجملة الأولى لميثاقها، الذي يعكس بُعْدَ الرابط بين الشعوب العربية وواضعي ميثاق المنظمة الإقليمية الكبيرة. ففي الوقت الذي تُستفتح به مواثيق المنظمات الدولية العالمية والإقليمية باسم شعوبها، كما في ميثاق الأمم المتحدة الذي يبدأ بعبارة "نحن شعوب العالم..."، نجد أن ميثاق الجامعة العربية يستفتح بعبارة "نحن ملوك ورؤساء الدول...". ولعل في هذه الإشارة العابرة ما يغني عن التفصيل.
اليوم تعيش الأمة العربية تمزيقاً غير مسبوق بأيدٍ خارجية متعمدة: ففي لبنان تتوالى الغارات الإسرائيلية من غير هوادة ضد المدنيين والأهداف المدنية، وفي العراق يعيش العراقيون أسوء أفلام رعب الكاو بوي الأمريكية حقيقة كل يوم، وفي الصومال تحديات لوحدته الوطنية القائمة ضد الرغبة الأمريكية، وفي السودان تهديدات بتمزيقه إرباً إرضاءً لرغبات خارجية، وفي سوريا تهديدات متواصلة لقيادة لم ترضخ بعد للسيادة الإسرائيلية، وفي فلسطين حصار وتجويع لأمة كاملة لأنها اختارت نهجاً ديموقراطياً لا يتوافق والهوى الإسرائيلي الأمريكي، والجامعة العربية -التي تناست اتفاقية "دفاع مشترك" كانت قد وقعتها الدول الأعضاء عام 1950 اعتبرت بموجبها أن أي اعتداء على أي دولة عربية يعتبر اعتداءً على بقية الدول جميعاً- تقف من هذا كله موقف المتفرج.
ففي لبنان ما تزال إسرائيل تفرض حصاراً برياً وبحرياً وجوياً، وتقصف المناطق المدنية في لبنان، معلنةً بذلك "حالة حرب" كما وصفتها فرنسا، ضاربةً عرض الحائط بكل القوانين والأعراف والمواثيق الدولية. على رغم ذلك لم تصدر الجامعة العربية بعدُ مجرد "بيان استنكار" كما فعل الاتحاد الأوربي الذي أصدر بيان استنكار ضد "استخدام القوة المفرطة" من قبل الدولة العبرية.
وفي العراق انتهكت سيادة دولة كاملة وشُنت حرب عليها من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا قتل فيها مايزيد على مائتي ألف مواطن عربي عراقي ولكن الجامعة العربية التي أعلنت عن موقف عربي موحد يرفض شن حرب على العراق قبل وقوعها، لم تصدر بيان شجب أو استنكار واحد بعد أن هاجمت الولايات المتحدة وبريطانيا العراق. الأمر الذي أراق ماتبقى من كرامة لهذه الجامعة، ولعله السبب الذي حدا ببعض جماعات العنف لرفض هذا الصمت والقيام بأعمال عنف غاضبة. فبعد الهجمات التي قامت بها مجموعة تابعة لتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين على عدد من الفنادق في الأردن زعم التنظيم في بيان له أن تلك الهجمات جاءت "رداً على مؤامرة استباحة دماء وأعراض المسلمين ...على مسمع من جامعة الدول العربية".
وفي فلسطين لا يزال موقف الجامعة اليوم مريباً من تحلي الجامعة بحكمة الصمت الكاملة حيال الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة في غزة بعد عملية أسر الجندي الإسرائيلي من قبل مجموعات فلسطينية. وقد تقدم رئيس حكومة فلسطين في 2 يوليو 2006، أي قبل أسبوعين، بطلب إلى أمين عام الجامعة العربية لعقد اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب ولا يزال ينتظر الرد!
وربما وجدت الجامعة العربية في المشكلة اللبنانية الحالية جواً مناسباً لدمج المشكلتين اللبنانية والفلسطينية على مجلس وزراء الخارجية العرب الذين سيخلصون إلى قرارت "تارخية"!
عجز الجامعة بدا واضحاً أيضاً في أحداث السودان ومثله في الصومال مؤخراً حيث جاءت تدخلات قريبة وبعيدة لم يكن للجامعة العربية أي تحرك نحو هذين القطرين العربيين والعضوين الفاعلين.
هذا فيما يتعلق بما يدور على الساحة العربية اليوم، أما ماحققته الجامعة العربية منذ إنشائها فمخيب لكل الآمال بجميع المقاييس. فقد شهدت الجامعة خلافات عربية-عربية بدأت بعد إنشائها بفترة وجيزة ولا تزال. وجمدت اجتماعات القمم العربية للأعوام 1966، 1968، 1970، 1971، 1972، 1975، 1977، 1983، 1984، 1986، كما توقفت اجتماعات القمم العربية لمدة خمسة أعوام متتالية منذ قمة القاهرة الطارئة في أعقاب الغزو العراقي للكويت عام 1990 وحتى قمة القاهرة عام 1996.
وجميع الوعود التي قطعتها دول الجامعة في اتفاقية الدفاع المشترك، وإنشاء محكمة عدل عربية، واتحاد اقتصادي على غرار الاتحاد الأوربي، لم يصاحبها أي عمل حقيقي على أرض الواقع. وأكثر ما حققته الجامعة عبر الحقب الطويلة في كل قراراتها "التاريخية" هو اجترار قرارات سابقة حول المطالبة "بانسحاب إسرائيل الكامل وغير المشروط" أو تنديد باتفاقية كامب ديفد، و...الخ...الخ. وقد بدا واضحاً اليوم صلابة مواقف الجامعة "التاريخية" لهذه القرارت!
المثير للسخرية أيضاً أن غالب إجماعات القمم العربية هو إما ضد أحد أعضائها كما حدث في قمة بغداد التي أجمعت فيها الدول العربية على تجميد عضوية مصر ونقل مقر الجامعة إلى تونس، وكما حدث أيضاً في قمة القاهرة في عام 1990 في موقف مماثل ضد حكومة بغداد، أو أن يكون لخرق إجماع عربي سابق كما حدث في قمة الخرطوم الأخيرة التي استجابت للضغوط الأمريكية في موقف "تاريخي" موحد ضد حماس للاعتراف بإسرائيل ليصدر هذا القرار من نفس العاصمة التي أقرت اللاءات الثلاث المشهورة قبل أربعة عقود.
إضافةً إلى ذلك فقد شهدت لقاءات زعماء الدول العربية مهاترات لا تليق ومكان منظمة دولية إقليمية. ولعل قرار المملكة العربية السعودية في عدم استضافة القمة القادمة يأتي ترجمة واضحة لعدم رضاها على إنجازات الجامعة التي خيبت آمال الشعوب والحكومات العربية على حد سواء.
ولكن للجامعة إنجازات متواضعة ليس هذا مكان ذكرها، ولعل أكبر إنجاز حققته الجامعة هو بقاء وجودها إلى هذا اليوم. فالجامعة العربية اليوم قد شاخت وكبرت ودبت فيها الأمراض والأسقام من كل جانب، ولا غرو إذاً أن يكون قد اقترب حصادها، إن لم تكن قد ماتت فعلاً.
فالجامعة العربية إن لم تكن قد ماتت موتاً حقيقياً فهي قد ماتت موتاً سريرياً. إذ إنها ميتة في كرامتها التي لم تعد تتأثر بما جرى ويجري في الساحة العربية في كل آن، وميتة في فهمها لواقع الشعوب العربية التي بحت حلوقها في المطالبة بأبسط حقوقها ولم تجد أذناً صاغية، وميتة في طبائعها التي لا تتحرك حين يتحرك الشارع العربي بكامله، وميتة بأحاسيسها التي لم تعد تنبض لأبنائها في فلسطين أو العراق أو لبنان أو غيرهم، وميتة في اجتماعاتها التي لم تعد تعقد كما ينبغي لها وإذا عقدت لا ينتج عنها إجماع، وإذا أجمعت لا يكون إلا على شر.
إن الجامعة العربية اليوم بحاجة إلى قرار صعب هو أصعب قرار في حياتها. هذا القرار يجب أن يكون على غرار القرار الجريء الذي اتخذته القمة الخليجية الأخيرة في حل درع الجزيرة حين أدركت هذه الدول عدم الحاجة إليه فعلياً رغم كونه موجوداً نظرياً منذ عقود.
وإذا ماجاء اليوم الذي تتخذ فيه الجامعة هذا القرار الجريئ فإن اللسان العربي سيقول: فلتذهب الجامعة غير مأسوف عليها.