سعد مصلوح
آخر أحفاد شوقي
بقلم :د. إيهاب النجديهو شاعر وما ينبغي له أن يكون إلا كذلك, وجرثومة الشعر وفيضه المحلق تزهو بإبداعاته على الصعد: النقدية واللغوية والثقافية, فجازى الله سعيه عن" جرثومة الشعر والإسلام" أو كما دعا أبوتمام, وما كان صداحه في أفق العربية منذ عقود أربعة بحثا ودرسا وريادة إلا خلاصة من ذوب نفسه العاشقة لأدب العربية والشعر منها في الصميم.
يعرف العارفون عناوين مثل:" الأسلوب" و" دراسات نقدية في اللسانيات المعاصرة" و " في النص الأدبي" و "التصوير الطيفي للكلام" و " المسلمون بين السندان والمطرقة" و " حازم القرطاجني" , ويتخذونها متكأ لا يخيب في أبحاثهم ودراساتهم , ويستلهمون آراء الأستاذ والمعلم حين يكتبون, وهذا طريق لاحب جليل, خلفه يتوارى صوت الشعر الرائق للأستاذ الدكتور سعد مصلوح, وهو أحب الأصوات, يطلع علينا بين الفينات بما يسر المحبين والمنقبين بمصباح ديوجين عن الشعر في زمن الكلام, ولعل آخرها رائعته التي نشرتها مجلة العربي " خطوات على الأعراف" , في مساجلة شعرية مع الشاعر المبدع الدكتور خليفة الوقيان, وحقا على الأعراف كان القراء ينظرون في نار الوجد حين تشب وتسطع وجنة الخيال حين تورق وتزهر.
دعوني أنتشِ قليلا بالشعر, بعدما بشمنا من سقم المتشاعرين وحاقت بنا تخمة الكلمات الجوف, وكدنا نصاب بغمغمات المحموم, فكثر النظارة الحائرون المشفقون وغاب القراء الحقيقيون, ولكن هاكم اقرأوا الشعر الخالص من قصيدة "الصفصافة" :
حـنَ من رقة وأنَ صبـابهْ وأذاب العذاب في شبَــابهْ وتمشت في روحه خضرة الحقْـ ل انطلاقا ونضرة ورحابه فتهادى الموال لحنا خصيبا لحبيب مضى أطال عتابه كان( حسان) مثل صفصافة الحقْـ ل رفيفا وروعة وصلابه صـافيا كالغديـر لم يعرف الزيْـ ف قنـاعا في بسمـة كذابــه ضحكات من الفؤاد عذاب ودمـوع يضل فيها عذابـه
كلما عدت إلى صفصافة الدكتور سعد تذكرت قصيدة" اعصفي يا رياح" التي نشرت في ديوان يحمل الاسم ذاته للعلامة الراحل محمود شاكر, ولا أدري تحديدا لماذا ؟ لكن من المؤكد, ليس لأن كليهما من بحر واحد (الخفيف):
اعصفي يا رياح من حيثما شئت... وعفي الطلول والآثارا
فمع هذا الاتحاد, ما أبعد الشقة بينهما في الخطاب الشعري, قصيدة شاكر أرسلها وتر ثائر عاصف,و"الصفصافة" عزفت على وتر الحنين والهديل, وإن غالهما وقع الذئاب" برقص كئيب" وتداعت " صفصافة المنى الخلابة" وأطار " الحمام عن عشه الهش" ليستوطن الغراب الغصون, وتنتهي حكاية " عاطفية" رعتها الشجرة الأم في زمن فات.
أقول: ربما لأن السبيل الذي يلتقيان عليه وسيع باتساع الضحى, فكلاهما صب عميق الصبابة للعربية التي" وسعت كتاب الله لفظا وغاية", وربما لأن الإبداع في القصيدتين يتزيا بزي واحد, الأصالة والقوة والرونق, أما اللغة فتبدو "طازجة" بقدر ما تبدو عذبة فخمة, تفتش عن قارئ يتقرى المفردات بحواسه جميعا, حتى ترى اليد ما تراه العين, ويحس العقل ما يحسه الشعور.
على عتبات المدينة نبت هذا الشعر , والمدينة/ المغترب القريب البعيد تنتج الحنين, تتوهج جذوته كلما اشتدت وطأة الإحساس بالغربة , العلاقة بينهما علاقة العلة بالمعلول, والشعر_نفسه _ في كثير من مساحاته وفي انفلاته من أغراض الشعر الدنيا, تشكيل لفتوة الحنين وكربة الغربة,هذا إذا نظرنا في العمق من مفهومهما,عندما يتجاوز غربة المكان إلى اغتراب الروح والفكر , ويهتز الحنين إلى جماليات الحياة وإلى حضور الغائب من بهجتها. وربما هذا ما استدعى (حاء ) الحنين في كلمات(أحنائه, المحبة ,تحتها, راحت ...) وتتويج الإيقاع الشعري للقافية بحركة الفتح و(هاء السكت ) ليرسل من خلالهما زفرات من أسى وتذكر وأمنيات تصافح المستحيل:
آه يا كم رنـا لهـا فتنـزى بين أحنـائه حنيـن القرابه فهنا تحتها وذات أصـيل فتح القلب للمحبـة بابه وتهـادت لقلبه أغنيـات أسبل القلب فوقها أهـدابه وعيون الصفصافة الأم راحت تشهد الملتقى, تطيل ارتقابه
وشاعرنا لم يركب الموجات: التفعيلة, النثر الشعري, الحداثة, و" أبى أن ينضي مطية سواه أو أن يتحلى بحلي مستعــار" ورحم الله صاحب الطوق ابن حزم. ولم يحل ذلك دون الأخذ بأسباب التجديد, فالقص الشعري أبرز ملامح القصيدة التي نعرض لها, ويمتزج حسان بالصفصافة والشاعر بحسان ويتطابقان " رفيفا وروعة وصلابة" , يعضده أفعال مثل" حن, تمشت, عايشت, سرت 000" والتنقل بين الزمان والمكان. وهذه المؤاخاة بين الشاعر والشجرة الحنون لا تجعلنا نرتاب في رومانتيكية الشاعر, إذا كان التصنيف حتما مقضيا, وإذا أولعنا بهذا الأمر فهو رومانتيكي في إهاب كلاسيكي, أو إن شئت مبتدع من أحفاد شوقي وحافظ, لا يتحرج من أن يستمد من الموروث الشعبي المحبب:
أن يقيه الإله شرَّ عيـونٍ حاسدات وأن يصون شبابه
والمسبوكات اللغوية والأسلوبية لديه تمتح من رافدين كبيرين: التراث الأدبي والشعر منه خاصة, والقرآن الكريم, ولا أحسب أنه يكثر النهل منهما ليدل بمكنزه الثقافي التراثي_ وإن حق له ذلك_ ولكن ليرسل رسائل خاصة جدا إلى المتهافتين بلغتهم وطرائق تعبيرهم, والمنفكين عن قيمهم وتراثهم الخالد.
ولأننا لا نستطيع أن نشفي الغلة أو ننتهي إلى ثلج اليقين_ بتعبير عبد القاهر الجرجاني_ إلا من خلال تتبع الماء حتى نعرف منبعه, والبحث عن جوهر العود حتى نعرف منبته, فإن منبت هذه القامة اللغوية والأدبية تمثل في بيئة دراسية تجمع بين الأصالة والمعاصرة( دار العلوم) وهي مدرسة أقر بتميزها الأستاذ العقاد( في تقديمه لديوان علي الجارم), يتضافر معها مدرسة " الأب " المناضل الذي ينظم الشعر أصالة ويترجم " فرائد القصائد" لأساطين الشعر الغربي: توماس هود, شكسبير, بيرون, والترسكوت, شيلي, لافونتين ...:
وعلى مشرق الصباح دعاء مـلء رنـــاتـه تقى و إنـابـه صـاعد للسماء دون حجاب من أب غضن الزمان إهابه
هذه الكلمة التي تلامس عالم سعد مصلوح الشعري, فيجري الشهد" من غير نحل يلامس" على عهدة أبي حيان الأندلسي, وهذا حسبها ومبلغ رضاها,هل تملك أن تدعو الأستاذ الجليل إلى لملمة الذات الشاعرة وضمها في ديوان؟ ليتدفق نهر الشعر الأصيل ويتآزر مع فارسه النبيل على الضفة الأخرى من النهر( أبوهمام عبد اللطيف عبد الحليم ), عندها يحق لكاتبها أن يهتز هزة النشوة والاحتفاء .
===========
إضاءات :
* ولد الدكتور سعد مصلوح عام 1943في محافظة المنيا بصعيد مصر, رائد أسلوبي, ويأتي كتابه الأسلوب علما في هذا الباب, يعمل الآن أستاذا بكلية الآداب , جامعة الكويت.
* نشرت قصيدة " الصفصافة" في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين, المجلد الثالث , ط 1995.
* نشرت قصيدة " خطوات على الأعراف" في مجلة : العربي, أغسطس2003
* صدر ديوان" اعصفي يا رياح وقصائد أخرى " للأستاذ محمود شاكر,عن دار المدني بجدة والقاهرة2001
* عبد العزيز مصلوح هو والد شاعرنا, مترجم شاعر, صدر له" فرائد القصائد من ديوان الشعر الغربي " عالم الكتب , القاهرة 2002, توفي عام1984
* الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم ( أبو همام ) أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة, من شعراء مدرسة الديوان, فاز بعدد من الجوائز العربية منها: جائزة الشعر من مؤسسة يماني الثقافية, وجائزة مؤسسة البابطين للإبداع الشعري.