تذاكر السفر بيده اليمنى، و بدون شعور منه، أخذ يلوح بها ذات اليمين و ذات الشمال أمام نظرات ابنه الذي سيكتمل عما قريب ربيعه العاشر، قال له و الفرحة تتراقص في مقلتيه:
- غدا، الأربعاء، سنرتقي سلالم الطائرة في اتجاه بلادنا
- صحيحا يا أبي؟ قال الطفل الذي لا يعرف عن بلاده سوى اسمها الذي ينطق به مائلا. و يتلفت إليه أبوه و تلتقي نظراتهما ثم يمد ذراعه و يجمعه إليه بحنو ثم يخطوان معا خطوات تسوقهما نحو الغرفة الشرقية التي تطل نافذتها على المحيط، و كمن يهم أن يبوح بأسرار محفوظة في غياهب اللاشعور، و لا يعرف من أين يبدأ ، قال له و هو يشير بيسراه:
- من هنا بلادنا ، بيننا المحيط الأطلسي.
قال ذلك بمرارة ، و في أحشائه رغبة شديدة ملحة ليبوح له بالظروف القاهرة التي أوصلته إلى هذه الأرض البعيدة .
كان ي أن يقول له بأنه هرب من جحيم البطالة الذي ظل يلاحقه أينما حل كشبح ماكر، كما كان يود أن يعبر له عن مشقة الحياة في تضاريس العشرينن بين أحضان أم لا تعرف كيف تضم إليها أبناءها ال=ين هاموا على وجوههم و ركبوا المخاطر بحثا عن أحضان بديلة تمنحهم الدفء الممنوع، و لكنه خاف من عدم فهمه له و هو ابن زيجة غير متجانسة ،لأن في اعتقاده، و إن كان اعتقادا غير جازم، أن فيه من الأم أكثر مما فيه من الأب. فقد قالت له زوجته التي ينوي نسيانها حالما تطأ قدماه تراب موطنه الأصلي، أنه ، أي ابنه، سيكون رجل المستقبل ال=ي لا تسجنه الحدود الواهية التي وضعها الإنسان التقليدي و هو يبحث عن النفوذ و الزعامة، أما اليوم، فإن العالم يسير نحو الانفتاح الكامل لبلوغ غاية سامية تجعل الناس كلهم مواطنين أحرارا، ينتشبون إلى وطن واحد هو الكرة الأرضية و يخضعون لقانون واحد هو العولمة، سعيا لتحقيق السعادة الإنسانية .
و كان يخاف أشد الخوف من حديثها في هذا الموضوع ، إذ يراه بداية لزوال سيطرته على زمام الأمور في عالمه الصغير، أو بداية غير معلنة لنهاية سلطة الرجولة و الفحولة، لذلك كانت تبدو له زوجته شبحا آخر مرعبا يبتلع إرادته شيئا فشيئا، فعزم على الهروب في صمت ، مما يصوره له خياله من العواقب الوخيمة ، لعله يكون هروبا أحسن من هروب حفر أثلامه عميقة في لوحة حياته ذات أعوام خلت.
- "الرحلة رقم 10 في اتجاه الجزائر عن طريق باريس، الانطلاق على الساعة ... ، الرجاء من المسافرين تخليص إجراءات العبور فورا".
أعلن مكبر الصوت بلغة انجليزية رخيمة ، و في تلك اللحظة على صفحة وجهه ابتسامة ماكرة ساخرة لتذكره بأن الوظائف التي تقلب فيها ، إنما الفضل في الظفر بها يرجع إلى فتوته النابضة حيوية و نشاطا، و إل عضلاته المفتولة التي دشن قوتها و صلابتها به>ه الأرض التي لا تعاف العرق، و ليس إلى النزر اليسير من المعارف التي حملها متاعا من جملة أمتعته القليلة.
لما تراجعت تلك الابتسامة الماكرة، لم ينته إلى أن الجو كان لطيفا جدا، على غير العادة في مثل ذلك الوقت من النهار بهذه المدينة المحيطية الصاخبة، فقد كان يحلق خارج المدينة، بعيد، هنالك في الجهة الأخرى من الكرة الأرضية ، دفء المتوسط و حنانه، فلم يشعر بلسعات النسمات و هي تلفح وجنتيه اللتين انمحت عليهما آثار الأثلام الغائرة التي كانت تطبع سحنته قبل أعوام.
و بلهفة منقطعة النظير كان يترقب إقلاع الطائرة، كأنما يريد أن ينافسها في تحليقها، و إخيرا طارت و طار معها عقله مخترقا أجواز الزمان و المكان، ففوت على ابنه فرصة التمتع معه بمنظر ناطحات السحب. فلما تفطن لذلك، كانت الطائرة بين السماء و الماء ، بعيدا، لم تتمكن نظرته التي خلفها وراءه عبر كوة ضيقة أن تخطف قطعة من ذلك المشهد الممتع، و يأتي بعد ذلك صوت قائد الطائرة يقطع حبل سرحانه قائلا:
- قائد الرحلة رقم 10 يرحب بكم و يتمنى لكم سفرا ممتعا في ضيافته، و يدعو حسن انتباهكم لمتابعة إجراءات الوقاية برفقة مضيفتنا الرشيقة.
و بحركات آلية أخذ ينفذ توجيهات المضيفة، إلا أنه كان منجذبا إلى نداء يقرع مسامعه ، و كانت المقاطع الصوتية التي انتهت إلى مسامعه كافية لتجعله كتلة من جماد، صرخ من أعماقه صرخة الرفض بعنف مشبوه، و لم بنفسه بعدها إلا و هو مقيد المعصمين بالحديد، و حوله الأذرع مصوبة نحوه متهمة:
-" هو ذا إرهابي.. هو ذا إرهابي.."
و غرقت الطائرة في لجة عارمة من الهلع و من الأحاديث و التعايق المتشابكة التي لا يعرف فكاكا، و ( أخمد ) الذي استرجع أحمديته رغما عنه ، في زاويته التي زج فيها، و هو يجمع ساقيه إلى نحره ، يتجرع مصيبته التي قطعت آخر أنفاس الأمل المفجوع.
فليتهم بما شاءوا من التهم، فالأمر عنده سيان. ماذا فضل عنده ليعيش من أجله؟ ابنه؟ لا يدري أي مصير ينتظره بعد الآن. زوجته أو من كانت زوجته؟الأمر محسوم، لم يبق هنالك ما يغريه بالتفكير في العودة إليها. والداه و إخوته؟ نعم، تلك هي المصيبة التي فجع بها و أفقدته توازنه.
و كمن فقد عقله فجأة، طفق يردد و العين دامعة، مقاطع غير مكتملة من مشاهد تمر أمام عينيه :
-" هوت.. هوت.. هكذا مثل قصر من الرمال.. عشرة طوابق.. مائة شقة ..أبي .. أمي.. إخوتي.. زلزلة..زلزلة.."
و النبأ العظيم لم يخترق إلا أذنه وحدها،.ملمة جديدة أخذ يتجرعها زعاف، بينما بقية الراكبين كانوا في ذعرهم غارقين. أية لعنة هذه؟ تلاحقه أينما حل. أهو قدره الذي لا مفر منه؟ و لكن هي هكذا الأرزاء ، لا تأتي إلا بالجملة، و تشاء الصدفة مرة أخرى ، و ما أجلها من صدفة، أن من جوف الطائرة صوت مهدد كمدية حادة يقطع الحناجر الصاخبة و هو يقول:
- لا أحد يتحرك.. الطائرة مخطوفة. و سيتحول مسارها إلى وجهة أخرى، عليكم بالتزام الهدوء لن يصيبكم مكروه.
الطفل الذي كان يقضم تفاحة منتفخة الأوداج سقطت من يده فجأة، و عيناه أخذتا تطاردان أشباحا أقوى من خياله المهزوم،و الرجل الذي كانت تملأه أحلام العودة ، تيقن في تلك اللحظة أن التفاحة التي عشق خدودها ما هي إلا فاكهة ماكرة خادعة، كما تيقن أنه لم يكن مصيبا حين خالف قلبه الذي دله بسوء العاقبة يوم ارتمى في مخالب المجهول، و لكنه كان عنيدا يحب التحدي:" فليكن ما يكون من وراء ذلك، فليس بالأمر المهم في كل الأحوال بعدما تساوى عندي العدم و الوجود" قال من يأس، لنفسه. و هاهو التاريخ ينتقم لنفسه و يصفعه بره القاسي و كأنما يقول له:"إن السفر كان يجب أن يكون إلى داخلك ، و لكن هيهات ، هيهات...
الأربعاء 23-05-2003
التاريخ الذي يصادف الزلزال الذي ضرب ضواحي الجزائر العاصمة . القصة واقعية مع شيء من الخيال المطلوب.