يفاجئنا الشاعر بقوته ، وقوة روحه الشاعرة ، وسعة انطلاقاته وامتداد آفاقه ، وخياله المجنح ، وعاطفته العنيفة أحيانا ، الوادعة أحايين أخرى ، ونحن بينهما نتهادى انتشاء .
إن عمق التجربة الشعرية في هذه القصيدة يأخذنا إلى عالم الشاعر، بحيث تتحول التجربة من تجربة نفسية شخصية إلى تجربة إنسانية، وكأنني به يريد أن يضعنا أمام المتناقضات التي تحيط بنا، رغم أنه يمثل تجربة تبدو للمتلقي أنها شخصية بحتة.
وأول ما يلفت النظر في القصيدة ذلك الوجدان المنفعل ، وتلك العناصر التي استدعتها التجربة لتنقل المتأثر بها إلى ازدواجية لابد منها في حيوات الناس.
نبدأ معه باستخدامه للأسلوب الإنشائي المتمثل بالنهي والأمر في بداية الشطر الأول من البيت الأول، والشطر الثاني من البيت نفسه.
وقد يستغرب أحدنا كيف يبدأ شاعر قصيدة باطنها الحب ، بالنهي والأمر ، وأراه قد وضعنا في أتون حالة يعيشها ، فهو ينهى من يحدثها عن أن تغرق أشعاره في رمال الصمت ، وأظنه اختار الرمال لأنها سريعة النفاذ ، ولا تترك أثرا ، وهو يريد ألا تغرق أشعاره في طيات النسيان ، فالأولى للشعر أن يبقى طافيا ، لا غائرا ؛ لأنه يمثل الحالة الشعورية المقدسة – إن صح التعبير- والفصل بين الفعل وفاعله المستتر وبين ومفعوله أعطى بعدا رائعا للصورة، فهي المقصودة بالحكم عنده ، ولذلك قدمها على الأشعار.
وجاء الشطر الثاني ليؤكد الفكرة بالطريقة نفسها.
أما ريح العواصف فتحييه وتبعثه وتفجر العاشق الغافي فيه ، واستخدامه للريح ( وهي تعبر عن الشر عند العرب ) لا يقصد فيها الشر هنا ، بل يريد أن يعطيها القوة التي تتناسب مع ذلك العاشق الذي يغفو ، فهو بحاجة إلى ريح عاصفة تخرج ذلك العاشق من غفوته التي طالت ، وهذا البعد ظهر في استخدامه لاسم الفاعل في كلمتي ( العاشق ، والغافي ) .وقد ساهم المد المتكرر في كلمة الغافي في إبراز البعد الاستغراقي ، وكأنه عاشق طالت غفوته، ويحتاج إلى عاصفة تخرجه من غفوته.
وقد لفت نظري أنه بدأ بيته الثاني بجملة اسمية ( ريح العواصف ...) ليؤكد على ثبات الفكرة عنده ، ثم كان لابد لهذه الفكرة الثابتة من حركة عبر التجربة الشعرية ، وهنا جاء دور الأفعال المضارعة ( تحييني- تبعثني - تفجّر) ؛ ليعطي بعد الحركة والاستمرار في الإحياء والبعث والتفجير ...
وقد سار بنا الشاعر على هذه الطريقة في الإحساس ؛ ليؤكد أن الرغائب لا تبلغ الريّ دوما ، وتحتاج لمعادل معاند يخرج كوامنه ، ويستحث فيه التجربة الإنسانية ، وإن كان العنف هو السبيل إليها ، فكثير من مشاعرنا تحتاج إلى أن تخرج غلابا .
وكان بودي أن أتابع قراءة القصيدة بيتا بيتا ، وحرفا حرفا ، ولكنه لا يستقيم لي في هذه العجالة.
وعند رصدي لأفعال الأمر الدالة على الفعل الذي يستدعيه الشاعر ليعمق تجربته نجدها ستة أفعال ، وهي :( حرّكي – قاسميني- صاحبيني – ألهميني – ذوبي – حوّلي ) وفيها جميعا َإضافة إلى ياء المتكلم ؛ لأنه يريد أن يربط بين فعلها وبين تأثيره فيه، وطلبه ذلك طواعية . وفي المقابل نجد الأفعال المضارعة أربعة عشر فعلا وهي: ( تغرقي – تحييني – تبعثني – تفجّر- تشق – يعلو – يهوى – يصارع- تهزم – يصد – يتابع – يدركني – تغوص – يلقطها)
ففعل الأمر استدعاء لحالة عاصفة يريد أن تأخذه إلى عالم التجربة، والفعل المضارع رصد لتأثير حركة ذلك الفعل، أو رصد لحركة ( المنفعل ) إن صح التعبير .وهكذا تتعانق طيوف الرغائب مع حركتها المنفعلة .
وبنظرة لبعض الألفاظ المستخدمة نجد أن يتكئ على المعجم القاسي في التعبير عن الرغبة ( إعصار – ريح – عواصف – تفجر – تشق – يصارع – الغضبى – تهزم – أخطاري – جيش – النار ) ،وعلى المعجم الرقيق في التعبير عن نتيجة الرغبة ( بحار الحب – العاشق الغافي – شدوي – أطياري – المسافر في أشواقه – الحلم ...) وكأنني به يريد أن ينقلنا إلى ساحة حرب بين شعورين متناقضين . أحدهما يستدعي القسوة في الفعل ، والآخر يستدعي الرقة والسلام في نتيجة ذلك الفعل .
وجدير بالذكر أن الأشعار كالأحلام إرواء لرغبات منعت من الري ، وهي استباحة رفيقة لمحرمات ضيقت عليها النفس الخناق ، وقد وفق شاعرنا بوضعها في عالم يتنازعه الدافع والمدفوع .
فشاعرنا يجد متعة في خضوعه لإرادة المحب واستلامه لسلطان هواه ، مع احتفاظ بعزة نفس ، وكبرياء نجدها تتجسد في نهاية القصيدة ، فالقصيدة تنوس بين التعبير عن دوافع سيطرة الحب ، ودوافع الخضوع المؤدي إلى السعادة ، وقد ذكرني بقول الشاعر:
|
مالي تطاوعني البرية كلها |
وأطيهعن وهن في عصياني |
ماذاك إلا أن سلطان الهوى |
وبه حكمن أعز من سلطاني |
|
|
إن العالم الجميل في قصيدة الحبيب الدكتور عراقي ينقلتا إلى انتزاع الرغائب انتزاعا ، فالجميل والرائع لا يأتيان إلا بعد جهد ومشقة .
عقدت القصيدة الصلة بين عالم الشعر وعالم الحلم ، وكان البيت الأخير عالما خاصا ، وكأنني به البداية ، فهو ختام وبداية ، وبهذا يكون الإحاسس دائريا مغلقا .
|
قلبي محـارةُ شـوْقٍ فـي شواطئهـا |
منْ ذا سيلقُطُها منْ فيضِ أسْـراري؟ |
|
|
وبه أعطانا الفكرة مجسدة بثوب الجملة الاسمية التي تدل على الثبات والاستقرار ، وترك لنا الحرية في معرفة الإجابة عن السؤال ، وفي الإجابة عنه يكمن حل المعادلة الصعبة بين الفعل والمنفعل...
الحبيب الدكتور مصطفى : هي قراءة مستعجل ، متذوق لشعرك ، ومحب له ولك ..
كان بودي أن أقف عند دقائق الموسيقا الخارجية والداخلية ، وعند الكثير من المعاني والدلالات ، ولكنني أعتذر بين يدي حروفك عن تقصير أمام هذه الرائعة .
ربما تجمعنا قصيدة أخرى ، فعالمك يغريني بالمتابعة ، وأظن أن قصيدتك هذه تحتمل وجوها غير التي رأيتها فيها ، وهذا دليل على عمق التجربة ، ويبقى أن أقول : إن أحدا لا يعرف قيمة الكلمة أكثر من الشاعر ؛ لأنه يضمنها عالما يبعثه فيها ، ونحن نتلقاها بإجلال .
فدم مبدعا وإنسانا أيها السامق