الإخوة العظام
والأحبة الكرام
تحية طيبة مكتوبة بماء الوردِ، ومغموسة برائحة النَّدِّ
وبعد
فهذه - وفقنا الله وإياكم إلى الخير ، ونجانا من الشر - مقامة ، أسأل الله سبحانة أن ترسم على وجوهكم الكريمة ابتسامة
وأدعو الله لي ولكم بالسعادة وأن يرزقنا سبحانه الحسنى وزيادة
المقامة الزواجية
حدثنا ليل بن نهار قال : أخذتني عصا التسيار ، في كثير من الأسفار إلى عديد من الأمصار ، حتى انتهيتُ يوما إلى بلاد ماء وراء النهر، ومكثت فيها وحيدا عزَبا أكثر من شهر، فتاقت نفسي إلى الزواج ، بمؤنسة تدخل إلى قلبي الابتهاج، فتوجهت إلى مسجدٍ من المساجد ، فرأيت الناس بين قائمٍ وساجد، وسمعت أحدهم يتجه إلى ربه، بدعاء نابعٍ من قلبه:
" يارب، وفق ابنتي إلى ابن الحلال، يا إلهي إنك أنت العالمُ بالحال، والعليم بالمآل ، فلما أتم صلاته ، نبَّهتُهُ إلي فالتفت إلي التفاته، فقلت له وأنا في وجَل: ي عندك رجاء يا رجل
فقال: و ما خطبك؟
قلت : أنا طلبُك!
فقال ماذا تعني ؟
قلت : اقترب مني!
فلما دنا واقترب وضحت له الطلب، فقال :
"أهلا وسهلا ، ولكنني أقول لك مهلا ، إن ابنتي تقدم لها كثير من الخُطَّاب ، وكانت تغلق في وجههم الأبواب،
قلت: وما الأسباب؟
قال : إن لابنتي في المتقدم إليها شروطا عسيرة :أن يكون عالما بالفقه والحديث والتاريخ والسيرة،
فقلت وأنا أحاول بث الطمأنينة في نفسي ، وأسكب السكينةَ في حِسِّي :
" أنا والحمد لله على علمٍ بمبادئ هذه العلوم ، وأسأل الله أن يوفقني إلى رجائي المروم"!
فينما نحن نتكلم ، إذ أقبل علينا شيخٌ معمم، عليه سيماء الوقار ، وقدم لنا نفسه بأنه في بلاد ما أمام النهر علم على رأسه نار ، قائلا:
"إني قد سمعت الشروط، وها أنا في هذه العلوم البحر المحيط "!
فوقعت مهابته في قلب الرجل، ، وأصاب قلبي أنا بالمرارة والوجل !
فقال له الرجل :
" انضم إلينا ولنذهب إلى ابنتي على عجل، وسوف تضعكما في الاختبار ، لترى من سيقع عليه الاختيار
فسرنا في الطريق ، وأنا في همٍّ وضيق، من وجود هذا المنافس الخطير ، والعالم النحرير.
فلما وصلنا إلى الدار ، سألتنا العروس بصوتٍ فخيمٍ من وراء جدار، فوقع حبها في قلبي ، فدعوتُ:
" اجعلها من نصيبي يا ربي،"
أما هي فقالت بصوتٍ شعَّ نوره في القلب، وزادني حبا على حُب:
" فليعرفني كل منكم بحظه من العلم ، ومقداره من الفهم
فقلت لها:
" أما أنا فطالب علم مجتهد، ألازم العلماء وعلى رأيهم أستند.
وأما الآخر فقال: في افتخارٍ وتعالْ:
"أنا مفتي ديار ما أمام النهر، وعالمهم الأشهر ، وخاتمة الحفاظ ، ودرة الوعاظ، وإمام المحدثين والمنتهي إليه علم أصول الدين
إذا ذُكِرَ القرآنُ ؛ فأنا العارف بإعجازه وفضله، والعالم بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وفصله ووصله
وإذا ذُكِرَ الفقه فأنا أول أهله، الخبير بفروعه وأصله
وإذا ذُكِرَ الحديث فأنا العالم بواضحه ومشكله ،وصحيحه من ضعيفه ومرسله، والحاذق بأسباب صحته وعلله".
فعرفت أني هالك لا محالة ، من صاحب هذه المقالة !
قالت:
"إليكما هذا السؤال، فأجيبا عليه في التو والحال، فمن أجاب بالرأي الصواب ، كنت نصيبه في الحلال، وصرت له -إن شاء الله تعالى - أم العيال،
فدعوت الله أن ييسر الأحوال، فقالت فيما بين الزعيق والهمس:
"على كم ركن بنيت أركان الإسلام الخمس"؟!
فدهمني الاستغراب ، حيث تضمن السؤال الجواب ، وبينما أنا في ذهول ، إذا به يقول:
"أنا لها يا منية النفس، لقد عرفت بعد البحث والاجتهاد ، في التجوال بين الكتب والسفر في البلاد، أن الإسلام بني على خمس".
فلما قلت ولكنني كنت أعرف هذه المقولة ، بيدّ أنني تعجبتُ من فرط السهولة!
قالوا جميعا: هذا قصر ذيل يا أذعر، لقد أفحمك الإمام الأكبر!
فانصرفْ مشكورا ، قبل أن تُطردَ مدْحورا!
وبينما أنا متوجه إلى الذهاب ، لمحت وجه الشيخ فإذا هو شاب ، غض الإهاب،
فقلت بين شك ويقين ، وأنا غارق في بحار الظنون ، ألست أنت صاحبنا أبا حنظلة الفهلويّ ، صاحبي في بلدتي وجاري في الحيّ ؟!
فقال لي وكأنه يصاحبني إلى الباب ، نعم أنا هو يا رائحة الأحباب!
فقلت : ما علمناك إلا من مساكين الشارع ، فمن أين لك هذا المظهر الساطع الخادع ؟ وما هذا الادعاء غير المحبذ، بأنك العالم الجهبذ ؟
فقال لي وهو يدني ، فاه من أذني :
يا صاحبي إن تلك حيـلة أصبو بها للمنى الجليـله فلا تسلني عن الوسيــلة خفيفـةً جئت أم ثقيـله حسبي بأني ظفرت غيلة بخطبة الغادةِ الجميله
ثم أردف: " ألم تعلم أن الرزق في الحيلة ، والنوال في الحركة"؟!
فدعوت له من سويداء قلبي باليمن والبركة .
وأن يجعل الله له الخير المضمون في هذا الزواج الميمون
فهو وخطيبته على الأقل أكثر علما من وزيرٍ حاكى نقيق الضفدعة حين صرح في المعمعة : أن أركان الإسلامِ أربعة!
وقد عزمت على أن أصبر الصبر الجميل (وهو الصبر دون شكوى) ، ليعوضَني الله عنه الخير الجزيل (ويجزيني بفضله الجزاء الأوفى) !