أجدني أمام لوحة مسرحية بديعة ، توفرت فيها على قصرها مقومات المسرحية الشعرية الطويلة ، غير أننا لم نشعر بملل وكأننا نصر على كونها قصيدة قصيرة رغم استمتاعنا بمسرحتها .
"مع ابن تيمية في سجن القلعة"
اسم العمل يشي بمضمونه ، حوار ومناجاة وقرب ، باختصار لحظات حياتية مع البطل في مكان اختبار للإيمان ، وبرغم أن مسرح العمل في السجن حيث الظلم والظلمة ، إلا أن الشاعر ينقلنا لحالة مغايرة لما توقعناه من لفظة (السجن) بالنور والبهاء في بداية النص ، هذه هي الخلفية المرئية ( الديكور ) التي يتسلل منها التأثير الصوتي المصاحب وهو هنا ليس موسيقى تصويرية كالمعتاد بل كلمات سماوية وتسابيح قلبية ، وما أجمل هذا التأثير الروحاني كمدخل للنص.
ثم ينتقل الشاعر نقلة مسرحية بالحوار بين الشاعر والشيخ في فلسفة جذابة وإشارة لسجن الجسد وسجن الروح ، ثم ينقلنا نقلة عالية جدا بعد الحوار الذي أثمرت كلمات الشيخ فيه ثمراتها في قلب الشاعر ، ليتحول السجن الضيق إلى حديقة ، وما أجمل حديقة الرضا والإيمان حتى إن شيدت في قلب أعتى السجون ، بل إن الزنزانة لترق من رقة قلوب ساكنيها ، وتتسع المسافة الضيقة لتبصر العين منها رحابة ما بعدها رحابة:
ويزورُ الفجرُ حديقتنا ويرِفُّ علينا بحنوِّ
والشيخُ الطيِّبُ يصعدُ بي يرقَى لسموٍّ فوق سموِّ
رقَّتْ زِنْزانتُنا، وتخلَّتْ عن قسْوتِـها
رحبُتْ دُنيانا واتسعتْ كُلُّ الآفاقْ
وشعرتُ بدفءٍ يسْري في أوْصالي
وانشقَّ الفجْرُ ، وشعَّ القلبْ
شكرًا يا شيخي الطيبْ"
وبعد هذه الطمأنينة الإيمانية الذي أدخلها الشيخ على قلب الشاعر يتحول الحديث مرة أخرى بعد انقشاع الظلمة إلى الأمل فى انقشاع الظلم :
- ماذا في جعْبته؟!
فليرشقْنا بسهامٍ بعد سهامْ
ولْيرمِ علينا الأوهامْ
وليقذفنا بالأضغانْ
ليس لكفِّ الباطلِ يا ولدي سُلطانْ
يدُهُ مهما بطشتْ شَلَّاءْ
أينالُ الباطلُ مني ؟ هيهاتْ
و نعيمي في صدري أصحبه يصحبني حيث أكونُ بغير فراقْ
هنا يشب الإيمان جبلا في قلب الرجل ، فالنعيم يحمله أينما رحل، فما عسى الظالم أن ينال منه ، بل إن الظالم المعتقد بأنه سجن النور واهم ،
" يخبو وجهُ المأْساةِ الشاحِبْ في إطراق"
- ماذا يبقى إن هُمْ سجنوا النورْ؟
- لا يسجنُ يا ولدي نورْ
ثم يعود الحوار مرة أخرى مستهينا بما يلقاه القلب المؤمن من كيد وما يصلاه البدن الصابر من قيد :
ماذا يبغي أعدائي منِّي؟
ما أهونَ كيْدَ الأعْداءْ!
إنْ أُسجنْ فهي الخلوةُ خلوةُ حبّْ
تسعى روحي بالأشواقْ
تُسقى من نـهْرِ القُرْبْ
والنفي سياحة قلبٍ يستلهم أنوارًا
أني يذهبْ في الآفاق
يشهدْ
يتأملْ
يرقُبْ
يرهبْ
يرغبْ
بالقلب الخفاقْ
- والقتلْ؟
هنا مربط الفرس ، فالكلام الطيب الجميل يقدر عليه الكثيرون ، والصبر المصطنع يتحمل مرارته المراءون ، ولكن الموت يبقى فارقا بين المخلص وغيره وهو هنا في النص عند الشيخ موعد للقاء آخر يتوق إليه :
القتلُ شهادة
القتلُ لِقـاءْ
وأنا مشْتاقٌ يا ولدي لِلِقَــاءْ
وأنا مشتاق يا ولدي لتلاقْ
هنا لابد أن يكون الختام ، وقد أحسن الشاعر الخاتمة بآخر آيتين من سورة القمر ، ختام ولا أروع :
"إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ . فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ"
(سورة القمر: 54،55)
الله الله الله
رائعة يا رجل الروائع
ومعذرة لما سكبه قلبي هنا فلست ناقدا ولكني هذا ما استقر بقلبي من قراءتي الأولى للنص .
دامت الروائع