سلام الـلـه عليكم
قراءة سريعة
في قصيدة "مع ابن تيمية في سجن القلعة"
للشاعر المبدع والناقد الكبير
الاستاذ الدكتور مصطفى عراقي
"إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة."
" ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة."
غريب هذا الشعور الذي انتابني , وأنا أقرأ القصيدة , فقد رحت في حالة من اللاوعي , لاشاهد العالم شيخ الاسلام , المبتلى في سجنه , في قلعة دمشق , بهيبته وحضوره , يذكر الـلـه في حالة عشق وتبتل , يقرا سورة الفاتحة , من بدء الفجر حتى مطلع الشمس , يتلو آيات الـلـه , يسبّح باسم الرحمن , ويضيء الظلمات , ويصب النور على الصفحات , يعيش جنّة لايعرفها إلا من حباهم الـلـه بها نعمة , هل يعقل هذا الذي فعله الشاعر , أية مقدرة هذه , وأي تمثّل لحالة مرت في التاريخ .
"نور, وبهاءٌ يخترقانِ ظلامَ السجنِ الحالكْ
وهُنالِكْ
يتلو منْ آي القرآنْ
ويسبِّحُ باسْم الرحمنْ
وينيرُ الليلَ صلاةً ، ومناجاة.
يبعثُ في أرْكانِ الزنزانةِ رُوحًا ، وحياة .
ويفيضُ على أوراقٍ من بحْرِ العلمِ الزاخرْ
ينهلُّ النور من الأوراقْ "
ولايكتفي الشاعر بما قام به من رسم حركي ووجداني للشيخ والزنزانة, بعبق شعري لافت , وتدفق جميل أخّاذ , وكأننا امام فيلم مصور , بل يدخل في حوار مع الشيخ الجليل , ليرسم لنا ومضات من داخل النفس , ويلامس فيها منحنيات التفكير والايمان والرؤية عند الشيخ , بشكل لايقدر عليه إلا أديب وشاعر , وقبل هذا مفكّر عميق التحليل , حّاد الرؤية .
" لكني ألمسُ وجْهَ المأساة
أحملها جُرحًا في الأعماقِ
- يا شيخي الطيِّبْ
- - ماذا يا ولدي؟
- حدِّثني عن آفاقِ القُرْبْ
- - ذاك حديثٌ علويٌّ غامرْ
- حدِّثني
- فلتجْلِسْ يا ولدي
هذي زنزانتُنا ضيقة
لا تحزنْ
- إني في سجْنٍ أضيقْ
وظلامٍ أعمقْ
حدثني
أخرجني من إظْلامي من سجْني! "
وبحركة موفقة ينتقل الشاعر , وقد توحد مع الشيخ الجليل , في تفاؤله الايماني بنصرة الحق , وشعوره بتفاهة أثر الزنزانة والسجن , على جهاده الفكري , فترى الشاعر يرى الفجر وقد انشق , وانطلق مع الشيخ من ضيق الزنزانة , للعالم الرحيب المتسع .
"ويزورُ الفجرُ حديقتنا ويرِفُّ علينا بحنوِّ
والشيخُ الطيِّبُ يصعدُ بي يرقَى لسموٍّ فوق سموِّ
رقَّتْ زِنْزانتُنا، وتخلَّتْ عن قسْوتِـها
رحبُتْ دُنيانا واتسعتْ كُلُّ الآفاقْ
وشعرتُ بدفءٍ يسْري في أوْصالي
وانشقَّ الفجْرُ ، وشعَّ القلبْ
شكرًا يا شيخي الطيبْ"
ثم يتناول الشاعر , مسالة هامة في مسيرة حياة شيخ الاسلام , بين فطرة الشاعر واحساسه , وبين الثقافة الغنية , والاستيعاب المترع بالقوة , وهي مقارعة الباطل , والحركات الزائغة عن الدين القويم , والتأكيد على منهج الوسطية , والالتزام بالفكر النبوي .
"- ماذا في جعْبته؟!
فليرشقْنا بسهامٍ بعد سهامْ
ولْيرمِ علينا الأوهامْ
وليقذفنا بالأضغانْ
ليس لكفِّ الباطلِ يا ولدي سُلطانْ
يدُهُ مهما بطشتْ شَلَّاءْ
أينالُ الباطلُ مني ؟ هيهاتْ
و نعيمي في صدري أصحبه يصحبني حيث أكونُ بغير فراقْ "
ثم يعود الشاعر للتأكيد على فلسفة الشيخ , تاركا ايّاه يعبّر عن فكره , مقتربا في عدسته , من المشهد , واضعا الشيخ في بؤرة الصورة المتحركة , ليقول : بأن لاشيء يمكن أن يحجب نور الحق , فنور الحق يخترق الجدران , ولعل في ذلك مايشير الى ايمانه , بأن الـلـه لابد ناصر لدينه .
" يخبو وجهُ المأْساةِ الشاحِبْ في إطراق"
- ماذا يبقى إن هُمْ سجنوا النورْ؟
- لا يسجنُ يا ولدي نورْ
سيشعُّ النورُ الصادقُ يـخْترِقُ الـجُدرانْ
يسعى في كل مكانْ بالإشراقْ "
وفي اسلوب ذكي , يعود الشاعر لضبط المشهد , وكأنه قد رفع يده مودعا الشيخ الجليل , ليردد ما قاله شيخ الاسلام ابن تيمية , من خلال حالة التوحد معه , مذكرا ومقدما جرعات غنية من فكره ومسيرته الجهادية المباركة .
" ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي، لا تفارقني، أنا حبسي خلوة. وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة."
ماذا يبغي أعدائي منِّي؟
ما أهونَ كيْدَ الأعْداءْ!
إنْ أُسجنْ فهي الخلوةُ خلوةُ حبّْ
تسعى روحي بالأشواقْ
تُسقى من نـهْرِ القُرْبْ
والنفي سياحة قلبٍ يستلهم أنوارًا
أني يذهبْ في الآفاق
يشهدْ
يتأملْ
يرقُبْ
يرهبْ
يرغبْ
بالقلب الخفاقْ
- والقتلْ؟
القتلُ شهادة
القتلُ لِقـاءْ
وأنا مشْتاقٌ يا ولدي لِلِقَــاءْ
وأنا مشتاق يا ولدي لتلاقْ "
في قصيدة اخذت شكلا متطورا من الأداء الشعري , قدّم لنا الشاعر المبدع , انموذجا متقدما في الابداع الشعري , ملتزما بأبجديات الاصالة , حرفا وكلمة وبناء ووزنا , جعلنا ننظر باعجاب ودهشة , ولنشهد دون تردد بقوة الشاعر , وتمكنه من كل الادوات , وثقافته الثّرة , وطلاوة جرس البوح , والذكائية العالية في انهاء القصيدة , وقبل كل هذا وذاك , نشهد له بتقديم فكر ورسالة .
أخوكم
السمان