كزار حنتوش " ... كيف تنام وحيداً ؟
بقلم / يوسف الديك
في العام 1993 اقترب مني صديقي الشاعر .." سعد جاسم " هامساً ، .. كنّا في النجف نتهيأ لبدء أمسية شعرية في قاعة المحافظة ..كان مشهداً دراماتيكياً . ..صفٌّ من المقاعد المتقاربة يميناً ..وصف في الشمال بينهما منفذ بمسافة مترين ..على اليمين بدلات وربطات عنق وقمصان مزركشة بكل ألوان الطيف ..أما الجهة اليسرى فقد اكتظت بسواد الملاءات .. ليس سوى عيون تبرق أو تشرق من كوى متسعة بحجم عيون النجفيات ...قال لي سعد ..ستفاجأ اليوم بشاعر صعلوك .جميل ..من أهم شعراء الحداثة ..على صعيد النصّ ..ذاك الرجل ..انظر إليه ..انه كزار حنتوش ، لم أستطع حقيقة تبيان اللون الحقيقي لقميصه عندما اشتراه أو استعاره ..رجل لا علاقة له بهندسة الشكل ولا بفيثاغورس.لكنه يدرك اكثر منّا جميعاً ماذا يعني " هندام الروح "..خجلت من أناقة بعض الحضور وأنا أنظر إليه ..صفق له محمد الفيتوري كثيراً وهو لا يكاد يتقن المشي على سلم المنصّة ...واستمعت إليه بحرص شديد ..كان يلقي الشعر كما تلقي السحابات أول الغيث ..هادئاً ناعماً ، وعدنا إلى بغداد في نفس الليلة ..قال لي أصدقائي سيرافقنا كزار ..سهرنا حتى الصباح ...ونام من تيسر له أن يبقى في سريري , وذهب من ذهبوا ليتقاسموا حجرات الأصدقاء في فندق فلسطين " ميريديان " ...في الصباح تركنا كزار نائماً واندلقنا نحو صباحية شعرية في مسرح الثقافة ..استمعنا والقينا ..وعند عودتنا ...صعدت مع خالد مطلق نحو حجرتي ..((904)) ..لا أحد في الداخل ..والحجرة مغلقة ..أين تركت المفتاح يا كزار حنتوش ؟..صرخنا ..قرعنا الباب ألف مرّة حتى تيقّنا أننا نخاطب السراب ..من حجرة قريبة كانت مفتوحة اتصل خالد بموظف " الماستر" فاحضر مفاتيحه وجاء ..كزار ملقى على الأرض ..والسرير في حالة يرثى لها ..وبعد أن هززناه خمسين مرّة ..وصببنا دلوين من الماء على رأسه الصغيرة ..أفاق كأنه في عالم آخر :
"
هاي شنو ؟ أنتو منو ..شنو تريدون ؟ .."
نعم يا كزار لديك كل الحق ..نحن الذين كسرنا باب هدأتك ..لا عليك ..، بعد قليل أفاق من مرارت حلقه ، ...وكاد يبكي وهو يعتذر ..فضحكنا جميعاً .
في العام التالي ...رأيته على بوابة قاعة الرباط ..حيث مكان الأصبوحة الشعرية ..تقدم من الشاعر الفلسطيني " أحمد يعقوب " الذي كان يقيم في العراق بشكل دائم ..ومقرباً منه بشكل مدهش ..أعاره أحمد سترته الجلدية الأنيقة لبضعة دقائق ..ليدفن تحتها كلّ رث الثياب ..فأصبح نصف أنيق ..عندما قدمه مدير الجلسة ودعاه لاعتلاء المنصّة ..قفز كأرنب هرم ..بنشاط خالطه التعب ..وصل ..ومد يده في جيب السترة الجلدية الأيمن ..ثم في الأيسر ثم في الجيوب الداخلية ..تذكّر أن قصيدته المكتوبة على ورقة نصف مهترئة في جيب سترته التي تركها مع أحمد يعقوب لحين عودته من رحلة الشعر ، صاح في المايكروفون ..أحمد يعقوب يا صديقي ..هذه " قمصلتك " فأين قصيدتي ...قرأ مقطعاً قصيراً من قصيدة نسيها ..وهوى غير عابئ بضحكات " حامد يوسف حمادي " وزير الثقافة والإعلام السابق ..فصفق له الجمهور بحرارة ...، بعد عودتي إلى عمّان تذكرته ..أثناء كتابتي لأحد النصوص ..فدخل القصيدة وقلت : ..،
عليك بخمس مشانق أخرى
كي ترضي كلّ الأبناء
مشنقة لي ..
مشنقة للوطن ..
وثلاث مشانق ..للغرباء .
خذني إليك الآن .
وعضّ أصابع كفّي علّي أشفى من ظمأ الصعلكة المرّ ..
وشوقي
أو أتيقن أني ما زلتُ أحب البسطاء
بكت الجريدة من أقاصي الصفحة الأولى ..
وخيبتنا بما حملت في صفحة الأموات أسمال الجريدة
هي ربما ..عرفت بخيبتنا الجديدة ...
خيبة شاعرٍ قرأ المنصّة ..حين لم يجد القصيدة
.
=========================
منذ يومين.. مات كزار حنتوش وحيداً ..في مدينة الديوانية بالعراق ..رحل مودعاً عالمنا بكل خيبات الزمن المرّ .
رحم الله الشاعر كزار حنتوش .